عروبة الإخباري – بعد شهر على حرب القدس – غزة التي استمرت أحد عشر يوما، لا وجود سوى لجمود على الأرض وفي المجال السياسي. لم يتغيّر شيء على الأرض ولم يحصل أي تحرّك سياسي في أي مجال من المجالات كما لو أن الهمّ الوحيد للإدارة الأميركية كان مقتصرا على التوصل إلى وقف لإطلاق النار والانصراف مجددا عن الشرق الأوسط، ولكن بعد السعي للتخلص من بنيامين نتنياهو الذي بقي رئيسا للوزراء طوال اثني عشر عاما.
مثل هذا الجمود غير طبيعي نظرا إلى أن تلك الحرب لم تكن مجرّد حدث عادي، خصوصا أنّها كشفت ولادة معطيات جديدة لم يعد جائزا التغاضي عنها… إلا إذا كانت في الحسابات الإسرائيلية والحمساوية حرب أخرى أشدّ عنفا ودمارا.
مقلق ومريب هذا الجمود الذي ستكون له نتائج كارثية في ظلّ حكومة إسرائيلية ذات تركيبة هشّة لا همّ لها سوى حماية نفسها من السقوط وتفادي انتخابات عامة ستكون الخامسة في غضون سنتين.
استطاعت مصر، أقلّه إلى الآن، احتواء أي تصعيد جديد في غزة، لكن ذلك لا يعفي “حماس” من التقدّم ببرنامج سياسي واضح تحدّد فيه مفهومها للتسوية في ظلّ المعطيات الجديدة التي أسفرت عنها الحرب الأخيرة. في مقدّم هذه المعطيات تحوّل “حماس” إلى اللاعب الأساسي فلسطينيا بعدما كسبت رهانها على الصواريخ ذات المصدر الإيراني. في النهاية، استطاعت إيران الردّ على إسرائيل في عقر دارها. استخدمت إيران “حماس” التي قصفت الداخل الإسرائيلي وعطّلت الحركة في مطار اللد قرب تل أبيب. على “حماس” الآن الاستفادة من الفرصة المتاحة لها بغض النظر عن الحسابات الإيرانية.
هذا يعني أنّ على “حماس”، هذا إن كانت هناك “حماس” واحدة، تحمّل مسؤولياتها الجديدة من جهة والتخلي عن شعاراتها الفارغة من نوع “تحرير فلسطين من البحر إلى النهر” من جهة أخرى. ليست “حماس” وحدها التي يتوجب عليها التصالح مع الواقع. ما ينطبق على “حماس” ينطبق على إسرائيل أيضا. تستطيع إسرائيل إلحاق المزيد من الدمار بقطاع غزّة، لكنّها لا تستطيع الإفلات من واقع يتمثّل في أن الشعب الفلسطيني موجود وأن هناك سبعة ملايين ونصف مليون فلسطيني، وربّما أكثر بين البحر المتوسط ونهر الأردن. هناك مليونا فلسطيني، أو أكثر من ذلك بقليل، في الداخل الإسرائيلي، أي ما يعرف بأراضي 1948. هؤلاء لم يتركوا أرضهم كما فعل آخرون في مرحلة الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى التي انتهت بإعلان قيام دولة إسرائيل.
هناك أيضا مليونا فلسطيني في قطاع غزة الذي تمنى غير مسؤول إسرائيلي في الماضي بأن ينشقّ البحر ويبتلعه بمن فيه. كذلك، هناك نحو ثلاثة ملايين ونصف مليون فلسطيني في الضفة الغربية.
هذا العدد لا يأخذ في الاعتبار فلسطينيي الشتات من الأردن إلى دول الخليج إلى سوريا ولبنان وكلّ أنحاء العالم. ليس في الإمكان تجاهل وجود هذا الشعب الذي حاول اليمين الإسرائيلي تجاهله، خصوصا بعد حرب غزة الأخيرة التي أظهرت عمق الروابط بين الفلسطينيين، بمن في ذلك أولئك الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية وصار بعضهم داخل حكومة اليميني نفتالي بينيت بعدما دعمها الإخونجي منصور عبّاس عضو الكنيست.
تفاديا لحرب أخرى، لا يكفي اعتماد الجمود. الجمود ليس حلاّ ولا قدرا. الحل باستغلال فلسطيني لتلك الحرب من أجل تحقيق اختراقات ذات طابع سياسي بعيدا عن أوهام الشعارات الطنانة. لا وجود لشيء اسمه مقاومة من أجل المقاومة، أو انتفاضة من أجل الانتفاضة. هناك شيء اسمه السياسة. عرف ياسر عرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني كيف يستثمر في انتفاضة 1987 – 1988 وصولا إلى فتح حوار مع الإدارة الأميركية في مرحلة أولى في عهد إدارة ريغان ثمّ جورج بوش الأب.
ما الذي ستفعله “حماس” التي راهنت على صواريخها في غزّة وعرفت كيف توظّف انتفاضة أهل القدس، وحيّ الشيخ جرّاح تحديدا، لمصلحة إلغاء وظيفة السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله؟
قد تكون الحاجة أكثر من أيّ وقت إلى تدخل أميركي من أجل إعادة الحياة إلى العملية السلمية ولكن بمشاركة “حماس” هذه المرّة. يفترض في من يشارك في حكومة إسرائيلية مثل الحكومة الحاليّة ويدعمها، خصوصا إذا كان من الإخوان المسلمين، ألا يرى حرجا في عرض مشروع سياسي قد يقود إلى فتح قناة مع واشنطن. ليس مطلوبا أن يشمل المشروع السياسي مبادئ التسوية فحسب، بل يمكن أن يتطلع أيضا إلى إعادة إعمار قطاع غزّة من دون عقد من أيّ نوع. سيساعد ذلك في تحويل القطاع، الذي كان فيه إلى ما قبل السنة 2000 مطار دولي ولديه معابر معترف مع مصر، إلى مكان صالح للحياة وليس مجرّد سجن في الهواء الطلق.
ما الذي ستفعله مصر التي تبذل جهودا من أجل إعادة “حماس” إلى رشدها؟ ما الذي ستفعله إسرائيل التي بدأت تعي أنّ لا بديل من خيار الدولتين وأنّه ليس في استطاعتها تجاهل وجود الشعب الفلسطيني.
الأهمّ من ذلك كلّه ما الذي ستفعله الإدارة الأميركية التي تعرف قبل غيرها أن الجمود ليس حلا ولا يمكن أن يكون سياسة شرق أوسطية لدولة مثل الولايات المتحدة تقول إن الاستقرار الإقليمي يهمّها.
لعبت الولايات المتحدة دورا في كلّ ما له علاقة بأحداث المنطقة وكانت وراء التوصل إلى معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية في آذار – مارس 1979. هذه المعاهدة لم تكن ممكنة لولا زيارة أنور السادات للقدس في تشرين الثاني – نوفمبر 1977 ولولا اتفاقي كامب ديفيد في أيلول – سبتمبر 1978. لم يكن اتفاقا كامب ديفيد سوى جهد أميركي للرئيس جيمي كارتر الذي دخل التاريخ من بوابة السلام المصري – الإسرائيلي وليس من بوابة المواقف المتخاذلة من إيران بعد احتجاز النظام فيها للدبلوماسيين الأميركيين في طهران طوال 444 يوما!
بعد ما يزيد على شهر على حرب القدس – غزة، تظهر يوميا الحاجة إلى التعاطي، فلسطينيا وإسرائيليا ومصريا وأميركيا، مع وضع جديد كي لا يتبيّن أن تلك الحرب ليست سوى تمهيد لحرب أخرى…