عروبة الإخباري – كتبت أمل عقرباوي
تعرّفتُ – منذ فترة – على الروائي عبد السلام صالح في رابطة الكتاب الأردنية حيثٌ إنّه يُعتبر أحد شهود وزهو رابطة الكتّاب والرواية الأردنية وفخرها. تحدّثنا بداية عن روايته التي لم أكن لهذه اللحظة قد قرأتها، وعن الكتابة بشكلٍ عام، وموضوع الجرأة المطلقة في كتابة الرواية، من أجل إيصال الفكرة السجينة في معاقل الذاكرة إلى القارئ، والتعامل المبني على الإحساس بالفكرة، وليس مجرّد كلمات جريئة تنتشر في الكتابة لزيادة الدافع الجنسي لدى القارئ. لكنني أبداً، لم أكن أتوقع أن الروائي (عبد السلام) يملك كل مفاتيح الجرأة في البوح عمّا يدور في ذاكرته، كما يملك كل هذا المقدار من الحرية الكتابية في تحرّره من القيود الاجتماعية، كنوعٍ من الخروج عن المألوف إلى التوغّل في عوالم اللامألوف واللامعتاد.
الروائي (عبد السلام) لديه ما يقوله من الأدب الجميل الذي يستحقّ القراءة، بغضّ النظر عن جرأته اللامتوقعة أو عن الاسفاف في بعض مواقع السرد الروائي. كما أن هذا الرّوائي يمتلك ثقافة عالية بالإضافة إلى قدرته في نقل تجارب الآخرين الى القارئ، كالتّحرر المُطلق للمرأة وتمرّدها على القيود والتقاليد وسلطة الرجل في مجتمع ذكوري بحت، وكذلك تناول موضوع بيوت الدعارة المنتشرة بيننا بكثرة بيننا لكننا نتجاهلها ونغضّ الطرف عنها بإرادتنا.
الكاتب والروائي (عبد السلام) بجرأته النادرة يقتحم في روايته الشبق الجنسي والدين والسِّياسة ويُعرّي كُلّ المظاهر المشوهة بعيداً عن رونق الأشياء والزيف. تحليل ناجح لرواية واقعية يحاول من خلاله إيصال الفكرة التي أرادها الكاتب واضعاً يده على الجرح وإن كانت طريقة السرد بها الكثير من الجرأة والكثير من النجاحات، وبعض الإخفاقات التي في نظري تلخصت في الجرأة الزائدة في الطرح واستعمال بعض الألفاظ الخادشة للحياء العام والتي لا تتناسب مع واقعنا الشرقي وتقاليده. كما يدور في ذهني تساؤل مشروع: هل يمكن لمن تم اغتصابها في وقت مبكر أن تصاب بالهوس الجنسي؟ أم أن ضحايا الاغتصاب يصبن بصدمة نفسيّة بحيث يفقدن الرغبة في روح الحياة بدواخلهم بسبب الخوف نتيجة الصدمة؟
تماما (سماء) بطلة الرواية، امرأة حرة ومتمردة، رغم جُرأتها الزائدة إلا انها تُعبّر عن توق وعطش للحرية وللحياة، نتيجة الظلم الذي وقع عليها، حيث أفسدوا وشوهوا طفولتها وانوثتها وأصبحت تشتهي الجنس وتُدمنه بهدف النسيان، تلجأ لتعاطيه مع أيٍ كان وأينما وبأيّ طريقة كانت. سماء الفتاة المُباحة وسيّدة الإثارة التي تم اغتصابها جنسيًا وهي في عامها الرابع عشر قررت ان تنتقم من واقعها المرير وبحقد الأنثى الصاخبة من أن تستبيح كل رجال الأرض بكُل شهوانيّة عالية. الحديث عن الجنس أخذ أكثر من ثلثي الرواية، لكن كان يلازمه الحديث عن بعض الأحداث كفلسطين والمنظمة والمنطقة العربية بشكل موجز. وأخذت الأحداث السياسية مكانها لتكون موازية للحديث عن الأحداث الرئيسية لـ (سماء).
اللافت في الرواية، أن الكاتب وازن بين استخدام ألفاظ بيضاء ولغة ناعمة سلسة وبين الألفاظ الفاسقة، ولم يقتصر الأمر على العلاقات الحميمة التي تلازم كل مبتل، بل كان هناك دروس وعبر علينا الأخذ بها متحملين خطورة هذا الأمر والطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع هذا المحرّم، الجنس. أرى أنه بمقدار ما تكون تلك المحرّمات مصانة في العلن، بمقدار ما تكون مخترقة في الخفاء، وهذا ما كان واضحاً من السارد، فقدم قصة مشوقة ومحببة للكثير من القراء، وأعتقد أن هذا الشكل من السرد، يعكس أثر الثقافة التي يلمّ بها الكاتب والتي جاءت من خلال اللاوعي. من هنا، نجده وازن في الحديث بين الحب والجنس باللغة الأدبية وما توافق مع الرذيلة والشبق الجنسي، فانعكس هذا الأمر على اللغة والألفاظ التي استخدمها الكاتب، ودون زخرفة لغوية. جاءت الرواية قوامها البساطة والانسيابية لتمضي بكل سهولة، كي لا تواري القُبح فينا من خلال تحدى وتجاوز الممنوع والتمرد على الواقع. ورغم ان الحدث الجنسي هو الأساس الا ان الكاتب تناول العاطفة والحب، تأكيدا على أن الجنس هو عملية حب رغم تعاطيها مع الجسد، ولم يتحدث هنا فقط عن الجنس المحرم، بل عن الجنس بصفة عامة. وأيضا موضوع الخمر، فرغم أنه محرّم، إلا أن السارد قدّمه كشفاء للكآبة وضيق الحال.
واللافت أن الكاتب يقدّم مشاهد الجنس بصور أحيانا أدبية وأحيانا أخرى بإيحاءات فاضحة. وعلى ما يبدو ان الكاتب كان يستمتع بما يكتب، والدليل انه يميل إلى المباشرة والوضوح. كما ان الكاتب لا يتعاطى مع الجنس كجنس، بل كأدب، كأحد عناصر الفرح وعناصر الطبيعة بكل جمالياتها. ففي «رواية أكثر من وهم» بدأ الكاتب وكأنه سجين، وخرج إلى الحرية وأظهر لنا الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع هذا الجنس. أرى أنه بمقدار ما تكون تلك المحرمات مُصانة في العلن بمقدار ما تكون مخترقة في الخفاء، وفيما لها من قدرة فعالة في الهيمنة على الفرد إلى درجة يصعب التحرر منها. كما اعتقد جازمة، ان تناوله للجنس كأحد الممنوعات اجتماعيا سيفتح علية آفاقاً رافضة، مع انه سيسهم في كشف زيف الواقع الذي يعيشه المواطن والمجتمع الذي يهتم بالشكل فقط ويتجاهل المضمون والهدف.
أعتقد أن تناول الجنس في الرواية، جاء ضمن هذا المنظور، تحدى وتجاوز الممنوع والتمرد على الواقع. وحتى (أحمد) الذي كانت رجولته مُجزأة وكان مهزوماً حد الكآبة، حاول ان يكون مُناضلاً وثائراً وحلم بتحرير فلسطين، لكن سرعان ما خاب أمله بواقع السياسة المرير والفساد المُتفشي ليكتشف انه امام عصابة وليس قادة. كل هذه الأنظمة ليست بأكثر من لاعقي أحذية المستبدّين. مدارس تخوين وقحة وخطيرة وعاهرة … مدارس مهما حاولت تجديد مصطلحاتها، إلا أنها مكشوفة، قائمة على العهر السياسي ومصيدة وكمائن للخلاص من المعارضين الشرفاء. فاتجه للهروب من الواقع لمنحا آخر وهو التخدير والخمول والسبات والكحوليّات وتدخين الحشيش وادمانها وعلاقات مشبوهة مع فتيات السوء، حيث يتفنن تماماً كما (سماء) بالعهر والفجور والفسوق، وأيقن ان القومية والوطنية ما هي الا تجارة رابحة وشعارات زائفة من أجل المصالح الشخصيّة حتى اصابهُ الاكتئاب وانعزل عن عالمه الخارجي، وأيقن ان لا بندقية ولا فصائل ولا حركات التحرير الوطني والعربي تُجدي نفعاً، بالذات حين سرق عضو المكتب السياسي في منظمة التحرير اموال التنظيم وهرب بها إلى بلاد العم سام.
في رواية «أكثر من وهم» يؤمن الكاتب ان احداث روايته تسهم في إرساء ثقافة حب الحياة والحرية المُطلقة بدل التطرف والإرهاب والقتل وتقييد الحريات. ونتيجة لتغييب الثقافة الحقيقية الايجابية التي اهملتها الانظمة العربية وعمّان بالذات، وكل ما له علاقة بالثقافة والفنون غاب الوعي، وغابت الروح الإنسانية وغاب الجمال واحترام الحرية الشخصية وحرية الرأي، لم نعد نرى ونعيش غير القمع والقهر وكل ما له علاقة بحقوق الإنسان.
وفي نهاية العمل، تُغادر (سماء) المدينة ويبقى المثقف الذي يمثله بطل الرواية (أحمد) غارقا بعزلته وبؤسه.
ومما اعجبني، قوله: «وأصاب البلد مرض الكلَب، يتسابق الكلّ على الكلبنه، حتى المعارضين والمثقّفين والكتاب، فتصير في البلد أوركسترا وجوقة نباح رائعة». ومما أزعجني بنفسي في بداية القراءة هو شتات فكري بالرغبة في مواصلة القراءة وبين قلق يدفعني الى الكتابة لأنني غير قادرة على مجارات الراوي في الجرأة التي تبناها منذ الفقرات الأولى من الرواية.
الرّواية بلا أدنى تشويه، تمثل كتابات الراوي، فهو استثناء في الكتابة العربية عموما، والرواية تندرج تحت كتابة التعرية والفضح، وان كانت ذات مغزى ورسالة … كتابة ضد التستر. فكتاباته بقدر ما هي صادمة، كانت حقيقية في وصف هؤلاء الهائمين في دنيا الرذيلة وعوالمهم التي يحيون فيها.
لا أدري، هل يمكننا توصيف ابطال هذه الرواية بالجنون…؟! ولكن في النهاية، أوليس الجنون حالة اجتماعية…؟! أُقرُّ لك يا صديقي، أن قلمك يُمطر ذهباً على نوافذنا المُشرعة للزيف والنفاق والبهرجة.
يُذكر أن صالح من مواليد مخيم الفارعة/نابلس عام 1966، عضو في رابطة الكتاب الأردنيين. يكتب الرواية منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، إلى جانب التميز في الكتابة المسرحية، ذلك بحصوله على جائزة أفضل تأليف مسرحي محلي في مهرجان المسرح الأردني الرابع للمحترفين عام 1996، وبعد عدة أعمال روائية «المحظية» 1995، «أرواح برية» 1999 و»صُّرة المُّر» 2009. يتابع مشروعه الروائي من خلال إصدار روايته الجديدة «أكثر من وهم» 2017، التي شدتني للكتابةعنها..