انتصر الشعب الفلسطيني في الجولة الأخيرة المنازلة مع الاحتلال الإسرائيلي وتجسيداته فوق الأرض الفلسطينية، انتصر انطلاقًا من القدس، التي شهت طوال شهر رمضان المبارك الفائت، نهوضًا وطنيًّا عارمًا في وجه جيش الاحتلال الإسرائيلي ومجموعات المستوطنين الذين حأولوا تعكير وإيذاء أداء المؤمنين لطقوس شهر رمضان المبارك في المسجد الأقصى، وعموم مساجد القدس. والأهم من كل هذا أن انتصار القدس بانتفاضتها وصمود مواطنيها من المقدسيين، استولد تلك الحالة الوطنية العارمة من قطاع غزة إلى عموم الضفة الغربية، التي انتفضت وواجه أبناؤها حواجز الاحتلال بصدورهم العارية واشتبكوا معها من النقطة صفر، ولاحقوا مجموعات المستوطنين. أما امتداد الفعل للداخل المحتل عام 1948 فكان الحدث الكبير الذي هزَّ أركان دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي وجدت نفسها وجهًا لوجه أمام من اعتقدت بأنهم نسوا فلسطينيتهم، وأن “الأسرلة” نالت منهم وأخذت بهم إلى مساربها، فسقط منهم 28 شهيدًا في مواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي. وفي حراكهم الوطني الذي كان الصفعة الكبرى للاحتلال، في اللد وحيفا وأم الفحم…
مدينة اللد، ولوائها (يافا والرملة) والتي نالها ما وقع بها من مجازر أثناء النكبة عام 1948، حين ضغطت عليها مجموعات (الهاجناه) بقيادة إسحاق رابين وبإشراف من ديفيد بن جوريون، عادت وبما تبقى من أبنائها داخلها لتنهض من جديد، وتعلن أن زمن النكبة انتهى، ولن يتكرر، وأن عودة اللد ومواطنيها لا بُدَّ آتية وإن طال الزمن قليلًا.
أما مدينة أم الفحم فهي الشعلة المتوقدة في الداخل المحتل عام 1948، الكنعانية الفلسطينية، والتي قدمت الشهيد محمد كيوان وأربعة شهداء آخرين، كان آخرهم الطبيب طارق زياد جعو (42 عاما) الذي استشهد متأثرا بجروحه الخطيرة في جريمة إطلاق نار خلال تواجده بسيارته مع زوجته وطفلهما (عمره 3 أيام) في شارع (المرمالة) بمدينة أم الفحم. ودَّعتهم مدينة أم الفحم ومواطنوها بالزغاريد والهتافات الوطنية، تمامًا كما كان يجري الحال في توديع الشهداء في مخيمات اللجوء والشتات، وتحديدًا في سوريا ولبنان.
اللد، وأم الفحم، وحيفا، وكل بقعة من الداخل، تعود بقوة لتؤكد فلسطينيتها، فـ(الأسرلة) لن تسري في عروق أبنائها، ولن يكون لها من مكان بينهم، فوحدة الأرض والشعب والقضية هي الأساس في المشوار الكفاحي، ودراما الرواية الوطنية الفلسطينية التي ستنتصر نهاية الأمر كما يقول المنطق والتاريخ.
إن نزول أبناء فلسطين من الداخل المحتل عام 1948 إلى ساحات العمل والمواجهة، بالاعتصامات، والعمل الجماهيري، والمظاهرات، ورفع الإعلام الفلسطينية، وبكل الوسائل الممكنة، تحوُّل نوعي يثري المشوار الكفاحي للشعب العربي الفلسطيني في الداخل الذي انتفض يوم الأرض عام 1976، وبحركاته الوطنية المتتالية وصولًا للجولة الأخيرة من المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي.
إن دروس ما بعد الجولة الأخيرة مع الاحتلال مُتعددة، ويجب أن يُستفاد منها على المستوى الوطني الفلسطيني العام، وأول تلك المستويات أهمية وحدة وأدوات المقاومة الفلسطينية في العمل وفي مواجهة الاحتلال. وثانيها وحدة الصف الوطني والتأكيد عليها كما تجسدت على الأرض وعلى امتداد أرض فلسطين التاريخية. وثالثها تنويع كل الوسائل الكفاحية المتاحة، دون التركيز على نمطٍ كفاحي واحد وإهمال باقي الوسائل المُمكنة في مواجة الاحتلال وكيانه. ورابعها أهمية الارتقاء من التنسيق الميداني بين القوى والفصائل، وخامسها إلى إعادة التركيز على بناء الوحدة الوطنية وإنهاء الإنقسام الداخلي.
وباستخلاصٍ إضافي، أبرزت الجولة الكفاحية الأخيرة، هشاشة بنية نظام كيان دولة الاحتلال الإسرائيلي، وإمكانية انفراط عقده الاجتماعي بين سكانه الذين جلبهم من أصقاع المعمورة إلى فلسطين. فكانت غالبية منهم على استعداد تام للخروج من فلسطين في ظل صمود الشعب العربي الفلسطيني على أرض وطنه التاريخي ومقاومته الاستثنائية.
كاتب فلسطيني ـ مخيم اليرموك