القدس الشرارة التي تنبعث منها انتفاضات الشعب الفلسطيني عبر التاريخ ، رفض أهلها القمع والتنكيل والإذلال والتهجير وهبوا بصدورهم العارية للدفاع عن المسجد الأقصى المبارك ، وعن حقهم في الحركة دون قيود في باب العامود والبلدة القديمة وكل زقاق من أزقة القدس ، هبوا ضد سياسات التمييز والتطهير والتهجير دفاعا عن كرامتهم ووجودهم وأرضهم فسطروا أروع أشكال البطولة والتحدي والانتصار على الاحتلال حين أجبروه في البداية على إزالة كافة قيوده في منطقة باب العامود ، وحين منعوا اقتحام المسجد الأقصى المبارك في الثامن والعشرين من رمضان ، وحين أجبروا الاحتلال على تغيير مسار مسيرة ما يسمى بتوحيد القدس للمستوطنين ، وحين أجبروا الاحتلال على إزالة حواجزه التي حاول من خلالها منع أهالي الداخل الفلسطيني من الوصول للمسجد الاقصى فهب المقدسيون في لوحة اجتمعت بها وحدة الشعب الفلسطيني.
هي أجواء عزة وانتصار بعثها أهل القدس والتف حولها كل أبناء فلسطين في غزة والضفة والداخل والشتات والامة العربية والاسلامية والاصدقاء ومساندي الحق والعدالة في العالم اجمع لتتوحد فلسطين جغرافيا وتاريخيا، ولتتوحد فلسطين قولا وفعلا فهبة القدس أشعلت الداخل الفلسطيني لأول مرة بهذه القوة منذ عام 1948، واقول أن هؤلاء الابطال، ليسوا الاباء والاجداد الذين عاصروا النكبة والنكسة، هم صانعوا الواقع الجديد لطلب الحرية والعدالة وحق العودة. وانتصرت غزة بكل قوتها وفصائلها دفاعا عن القدس والمسجد الأقصى المبارك، وبدأت الضفة تثور على وقع التضحيات وتلبية لنداء الوطن، وخرجت المخيمات الفلسطينية بأهلها الذين شعروا بقربهم من تحقيق حقهم بالعودة ، وعادت القضية الفلسطينية لتتصدر أخبار العالم فخرجت العواصم على مساحة العالم انتصارا للقدس وفلسطين .
إن ما يجري في فلسطين ليس منعطفا تاريخيا فحسب ، وإنما نسف للمشروع الصهيوني بأكمله الذي بدأت ترجمته بوعد بلفور المشؤوم في الثاني من نوفمبر عام 1917 الذي أراد وطنا قوميا أمنا سالما لليهود الصهاينة في فلسطين وأراد أهل فلسطين وشعبها طوائف غير يهودية بلا حقوق سياسة أو سيادية والاعتراف بحقوقهم المدنية والدينية فقط .
ولأجل ذلك سخرت بريطانيا ومن خلفها الحركة الصهيونية كل الإمكانيات اللازمة لتنفيذ الوعد ابتداء من احتلال فلسطين من قبل بريطانيا ولاحقا حكمها بحجة الانتداب ثم تسليمها للعصابات الصهيونية لتتشكل نكبة الشعب الفلسطيني التي تستمر حتى يومنا هذا على وقع العنصرية ومشاريع التهويد التي يقودها نتانياهو ومعسكره الذي رسخ كل أشكال التمييز والحقد والتحريض ضد الشعب الفلسطيني وتأكيد ذلك بقانون القومية العنصري الاستعماري.
وعد بلفور أراد أرض فلسطين وطنا لليهود ، فرفضت فلسطين الغرباء ومشاريع التهويد، وعد بلفور أراد الشعب الفلسطيني طوائف ضعيفة بلا حقوق ، فصمد الشعب الفلسطيني وانتفض وقاوم وتوحد ومازال بعد مئة وأربعة من هذا الوعد وبعد ثلاثة وسبعين عاما من النكبة يتواجد على مساحة فلسطين التاريخية يهب هبة واحدة وبلغة واحدة ليؤكد بأنه لا تنازل عن شبر واحد من فلسطين ، وبأن لغة التنازل والتفاوض قد انتهت حيث دحض الشعب الفلسطيني الرواية التي كانت تظن بأن الأجداد يموتون والاحفاد ينسون، ولعل الأيام الأخيرة برهنت على أن مساعي التشتيت التي تعرض لها الشعب الفلسطيني نتيجة تأسيس “دولة اسرائيل” لم يفتت وحدة الشعب ولم يغير شيء في تكوين جيناته الوراثية والتي جبل حمضها النووي بطين هذه الأرض على مر السنين، فها هي الضفة والقدس وغزة وفلسطينيو الداخل والشتات على قلب رجل واحد اذا تعرض منه عضو لأذى تداعى له سائر الجسد. ولعل خير دليل على ذلك مع حدث ويحدث الآن في مدينة حيفا ويافا وعكا و اللد وكل مدن وقرى الجليل والمثلث والنقب من انتفاضة حقيقة يرجع عقارب الساعة الى الوراء ثلاثة وسبعون سنة، فما زال هؤلاء فلسطينيون حتى النخاع وأن كل محاولات غسل الادمغة التي ظن المحتل بأنها قد تنسيهم تاريخهم العريق ومجدهم التليد قد ضاعت سدى، فجاءت هذه الهبة الجماهيرية لتنفض عنهم غبار السنين وتعيد الصراع الى محطته الاولى كشعب متجذر في هذا المكان لا يمكن لأغراب أن يمسحوا تاريخه بجرة قلم أو بوعد زائف ، وأنا على يقين تام بذلك خاصة بعد أن جبت فلسطين من النهر إلى البحر خلال شهر رمضان المبارك واستمعت لشباب فلسطين و للشيخ صياح الطوري الذي تحدث عن صمود العراقيب والنقب رغم استخدام كل سياسات التهجير والقمع والتنكيل وبناءه للعراقيب بعد هدمها أكثر من 100 مرة .
وحتى نكون على قدر ما قدمه الشعب الفلسطيني من تضحيات ومازال، لا بد لنا أن نلتقط هذه اللحظة ونعمل أولا على إنهاء الانقسام بشكل فعلي على الأرض، لأنه من الواضح بأن الهبة الجماهيرية الحالية عرت الجميع، حين أثبتت أن الانقسام هو انقسام بين النخب السياسية التي لها مصالح باستمراره، وليس بين أبناء الشعب الفلسطيني من رفح حتى الناقورة.
هذه الهبة الجماهيرية الكبيرة الحالية يجب أن تستثمر لصالح المشروع الوطني التحرري، وليس لصالح مشاريع فردية او حزبية بعينها، وهذا يتطلب بشكل فوري وسريع الاتفاق على برنامج سياسي بخطة واضحة يشترك فيها الكل الفلسطيني تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا يتطلب إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية من خلال إعادة تشكيل هياكلها على أسس ديمقراطية تتمثل بالانتخابات على المستويات كافة لتجديد الشرعية والوقوف مع المقاومة الباسلة ولتسخير جميع الموارد والامكانيات المتاحة لأهلنا في غزة العصية على الغزاة والمعتدين وكذلك الدعم الكامل المادي والمعنوي لعاصمة دولتنا العتيدة القدس و لنمضي معا على درب الحرية والاستقلال واستعادة حقوق شعبنا ومقدراته .
وعد بلفور باطل وسينتهي ووعد أهل فلسطين وعد حق سينتصر، وعد بلفور غير أخلاقي وغير قانوني ووعد أهل فلسطين تجسيد للأخلاق والقيم الإنسانية والدفاع عن الحقوق التاريخية المكتسبة منذ العصر الحجري ، وعد بلفور الذي اعترفت صحيفة الغارديان البريطانية العريقة وكل أحرار العالم بأنه كان غلطة كبيرة، لم تستطع دولة الاحتلال رغم كل الدعم العالمي لها في أن تحققه فعليا على أرض الواقع وأنه ساقط لا محالة وأخيرا أقول بأن الأمل عند الشعب الفلسطيني لم يمت، وبأنه فعلا كطائر العنقاء ينهض من الرماد، ويقول لكل العالم نحن كباقي شعوب الأرض لا نهوى القتل ولا نريد الموت، بل نريد الحياة بكرامة في ظل دولة مستقلة كاملة السيادة، وسنبقى نقاتل طالما بقي الاحتلال.