لم يتبق كثير وقت على الموعد الإثيوبي للملء الثاني لسد النهضة في يوليو/ تموز المقبل. تتباعد المواقف يوما بعد الآخر بين أطراف الأزمة الثلاثة، مصر وإثيوبيا والسودان. وعبر بوابات السد وهدير المياه المتدفقة، ثمّة هدير آخر للتاريخ يرسم ملامح الوجه الآخر للأزمة، فإثيوبيا في كل خطواتها تعزف على لحنها المفضل لنهاية “الاتفاقيات التاريخية الاستعمارية”، وهو لحن له جمهور يستمع ويتابع في تسع دول أخرى في حوض النيل، ويضرب على وتر حساس لمطالبها بإحالة الاتفاقيات التاريخية (الاستعمارية) إلى متاحف التاريخ. وكلما علت الأصوات في مصر مطالبة بحقوق مصر “التاريخية” في مياه النيل، زاد اهتمام دول حوض النيل وتجاوبها مع المعزوفة الإثيوبية. إنه الوجه الآخر للأزمة والحاضر بقوة، لكأنما تدفق المياه عبر بوابات “النهضة” يحمل معه ترسّبات التاريخ البعيد، فالسدود على النيل الأزرق فكرة بريطانيا، مستعمِرة مصر والسودان، بغرض التحكّم في مياه النيل وضبط تدفقه، بما يتيح لها التوسّع في زراعة القطن في السودان، وتأسيس مشروع الجزيرة، أكبر مزرعة للقطن في العالم، ومن ثم ضرب زراعة القطن في مصر. وحينما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر نيته بناء السد العالي عام 1956، ووجه بمعارضة الجمعية التشريعية في السودان، المستقل حديثا. ولكن مجرى التاريخ تغير في السودان في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1958 بالانقلاب العسكري الذي حمل الفريق إبراهيم عبود إلى السلطة. ولتعزيز سلطته في الحكم، سارع عبود إلى لغة مشتركة مع الانقلابيين موقّعا على معاهدة مياه النيل لعام 1959، بل أيد مصر بإبعاد امبراطور الحبشة (إثيوبيا)، هيلا سيلاسي، عن المشاركة في تلك المفاوضات، باعتبار أنها أمر يخصّ الدولتين باعتبار المعاهدة الإنجلو – مصرية لعام 1929.
والمفارقة هنا أن قرار إبراهيم عبود واتفاقه مع مصر، ثم تهجير النوبة من مدينة حلفا، أكبر مدن الشمال وإغراقها بالماء، كان أحد الأسباب وراء ثورة أكتوبر الشعبية التي أطاحت حكمه عام 1964. أما الأثر المدمر الآخر فيتعلق بالقطع التاريخي للتواصل الشعبي والانسياب الطبيعي للحياة بين النوبة في مصر والسودان، بإقامة بحيرة ناصر العملاقة التي فصلت عمليا شعبي البلدين.
وإذا كان السودان قد خسر الكثير باتفاقية 1959 مع مصر، فالأمر مختلف هذه المرّة مع سد النهضة الإثيوبي، إذ يؤكّد مسؤولون سودانيون كثيرون من وزراء سابقين، أو خبراء، على أن فوائد السودان من سد النهضة تفوق كثيرا ما يحققه حتى لإثيوبيا نفسها، فإذا كانت إثيوبيا تشيده لتوفير حاجتها من الطاقة الكهربائية، فللسودان فوائد كبيرة، أولها زيادة المساحة المزروعة في أرض الجزيرة وغيرها من مشاريع زراعية على مجرى نهر النيل. وثانيا، إمكانية زيادة عدد الدورات الزراعية لثلاث دورات، بدلا من واحدة كما الحال اليوم، وهو ما فعلته مصر بعد بناء السد العالي، وتحولها إلى ثلاث دورات زراعية. وثالثا، سوف يمكّن “النهضة” السودان من إنتاج الكهرباء من خزّانات سدّي الروصيرص وسنار من دون تقطع، كما كان يحدث في السابق، لأنه سوف يحجز كمّا كبيرا من الأخشاب وأجساما أخرى، يجرفها في جريانه، وتتسبب في تعطيل التوربينات وتوقف توليد الكهرباء. رابعا: الانسياب المنضبط للمياه، ما يسهل سبل استخداماتها ويزيدها. .. وغير ذلك من فوائد.
هذه الحقائق جعلت الجانب السوداني، في وقت سابق، يتخذ موقفا أقرب إلى إثيوبيا، فقد حكمت هذه المعطيات موقفه وتعاطيه مع الأزمة، باعتباره مستفيدا مؤكّدا، بل استجابت إثيوبيا لعدة ملاحظات فنية أبداها الخبراء السودانيون ونفذتها فعليا، ما رفع الكلفة المالية لبناء السد، وتكفلت بها إثيوبيا. وهذا ما جعل موقف السودان السابق أقرب إلى الوسيط بين مصر وإثيوبيا. وتاليا، عادت العلاقة العسكرية التاريخية التي حكمت العلاقة بين السودان ومصر، بوجود قيادة عسكرية في مصر، يمثلها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وأخرى يمثلها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، والذي لا يخفي طموحه بوضع يده على السلطة بالكامل. وواقع الحال يقول إن البرهان، فعليا، وبحكم العلاقة الضعيفة مع المدنيين في الحكم، يتجاوز اختصاصاته المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية. ويقف هذا الطموح العسكري للبرهان وراء التصعيد العسكري في الفشقة، ويقف وراء المناورات العسكرية المشتركة مع الجيش المصري في منطقة سد مروي. وأيضا وراء التحالف العسكري السوداني المصري بهدف داخلي، مساندة البرهان في طموحاته المحلية، مقابل مساعدته مصر، بجعل السودان أرضا لمعركةٍ مفترضة بين مصر وإثيوبيا.
وحينما تتأمل في حقيقة الموقف السوداني الذي تتبنّاه الحكومة الانتقالية تجده يعيد الحسابات السياسية الخاطئة التي وقع فيها الجنرال عبود في الماضي، حيث التحول من مراعاة مصالح البلاد إلى تلبية مطالب الإقليم الذي باتت سطوته واضحةً في القرار الحكومي في السودان، بما في ذلك الموقف من سد النهضة. وثمة أزمة أخرى مستقبلية حقيقية بين السودان ومصر، يحتمها الواقع الجديد باستفادة السودان من إيجابيات سد النهضة، وزيادة الرقعة الزراعية، ما يعني عمليا حاجته لحصته من المياه، والتي كانت تنساب في السابق إلى مصر، وتقدر بحوالي 6.5 مليارات متر مكعب من المياه سنويا.
أخيرا، لا عاقل يعتقد بإمكانية نشوب حرب بين مصر وإثيوبيا، لأنها تعني انتحارا سياسيا لمصر وأفريقيا، ومفاقمة للأوضاع الداخلية في إثيوبيا، ما يهدّد التنمية الطموحة هناك. أما السودان فسوف يكون الخاسر الأكبر، لأنه سيكون ساحة المعركة، ومن ستغمره المياه المدمرة.