عروبة الإخباري – أكد الدكتور عبدالله بن ناصر الحراصي وزير الإعلام أن وسائلَ الإعلامِ التقليديةِ (التلفزيون والإذاعة والصحافة) لم تزل تؤدي دورًا محوريًا في عالمِ اليوم برغم ما يُشاع من موتِ الإعلام التقليدي، وأن ما بشّرت به بعض النظريات التي تقع تحت إغراءِ تطورات الواقع باندراس أثر الوسائل التقليدية، لنتبيّن بعد حينٍ أن ذلك ليس إلا توهمًا غير حقيقي، وأن تلك الأدوات لم تزل مؤثرة غايةَ التأثير.
جاء ذلك خلال كلمة لمعاليه في المؤتمر العلمي الدولي الثالث لقسم الإعلام بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية في جامعة السلطان قابوس بعنوان “الاتصال الجماهيري في البيئة الرقمية.. بين ضرورات التربية الإعلامية ومبررات التعليم الإعلامي” والذي يُقام عن بُعد ويستمر لمدة ثلاثة أيام.
وقال معاليه إن نماذجَ الاتصالِ السائدة منذ العقودِ الأولى للقرن العشرين لم تعد تنجح كأطرٍ تفسيريةٍ لحالةِ الإعلامِ المعاصر خصوصًا مع تعّددِ وسائلِه وأطرافِه وتبادل الأدوارِ أحيانًا كثيرة وهذا يعني أن واقع الإعلامِ المعاصرِ يستلزمُ تدارسَ الأدواتِ النظريةِ الأنجعَ لقراءتِه وتنظيمِه إضافة إلى مناهجِ تعليمِه وتدريبِه. وقال معاليه إن تعزيز قراءة الواقع الإعلامي بأدواتٍ مبنيّةٍ على الواقع المُتثبّت منه ضرورة خصوصًا ما وفّرته التقنيّةُ الحديثةُ من آلياتٍ ومنصّاتٍ.
وأضاف معاليه أن الدراسات والاستقصاءات الإحصائية أكدت ومنها دراسات أجريت وبمناهج موضوعيّة في جامعة السلطان قابوس والمركز الوطني للإحصاء والمعلومات على قوّة التلفزيون في السلطنة وقدرته الهائلة على التأثير على المجتمع بل إنه يأتي على رأسِ الأدوات الإعلامية من ناحيةِ الموثوقيّةِ والتأثيرِ، وهو ما يعني أن كثرةَ المنصّاتِ وتعددَها وما يشوب ما يُطرح في بعضها من أخبارٍ غير موثّقة وإشاعاتٍ زائفةٍ قد قادت إلى تشبّثٍ أكبرَ بموثوقيّةِ التلفزيون، بل أن الدعوات إلى تطوير الأدوات الإعلاميّة التقليدية هي تعبيرٌ آخر على ثقةِ المجتمعات بها وبأهميّتها المعاصرة.
وأشار معاليه إلى أهمية التربيةُ التي لا تقتصر على دور العلم كالمدارس والجامعات بل تشمل كلَّ المؤسسات الاجتماعيّة كالأسرةِ ومؤسسات المجتمعِ الأهليّ والمدنيّ، بغرسِ القيمِ والمفاهيمِ التي تشكّل مجتمعةً أرضيةً لازمةً لاستقرارِ المجتمعات وتقدّمها، ومشاركتِها بقيةَ المجتمعات في العالمِ في التقدمِ البشريّ، ويأتي على رأس هذه القيم والمفاهيم الولاءُ للوطن والشعورُ بالمسؤوليةِ تجاهه وبذلُ الجهدِ والغالي والنفيسِ لأجله والعملُ لما ينفعه لا ما يضره، والتعلّمُ والمثابرةُ والصدقُ والإخلاصُ في أداءِ العملِ، والمساهمةُ بعصارةِ العقولِ والتقنيّةِ لما يخفّف آلام البشريّة، خصوصًا من الأوبئة كما علمتنا تجربة جائحة كورونا التي وحدت البشرية في أيامنا هذه.
معالي الدكتور وزير الإعلام في كلمته على دور التعليم في غرس القيم النبيلة البناءة التي هي أحوج ما تكون لكل قدرة ولكل مهارة ولكل بذرة إبداعٍ ولكل جهد في مختلف الميادين، وبما يمكننا من أن نساهمَ مساهمةً فعّالةً في تقدمِ البشريةِ من خلال العلمِ والمعرفةِ والإنتاجِ المفيد، موضحًا أن العناصرَ الحضاريّةَ للأممِ والشعوبِ هي أكثر من أيقوناتٍ ترويجيّةٍ لأطعمةٍ أو أزياء أو عناصر أخرى مرتبطةٍ بأمةٍ أو شعبٍ بل هي تلك الرواسي الحضاريّة التي شكّلت تلك الأمة أو الشعب، وضمنت استقرار هويّتها طوال التاريخ ودفعتها للإنجاز التاريخي.
وأكّد معاليه أن التاريخَ والإرثَ الثقافيَ من فنونٍ وآدابٍ ومعارف شتّى وتراثنا الملموس وغير الملموس هي العناصر التي شكّلت هويّتَنا الحضاريّة تاريخيًّا، وهي التي تحمي هذه الهويّة من الذوبانِ والانصهارِ.. داعيا الى ترسيخ الصلابةِ والالتزامِ والترقّي الحضاري وهذا الترسيخ يأتي من خلال التربية الإعلاميّة والدور الذي تقوم به التربية والتعليم بحماية الأجيالِ من مداهمةِ الإعلامِ غير النافعِ ووسائله المتقدمة. وأشار معالي الدكتور وزير الإعلام إلى أن البشرية توصّلت إلى التعليم من خلال دور العلم لتشكيل النشء لتحقيق أهدافٍ أعلى ومُثُلٍ أسمى ليكون النشءُ جيلًا واعيًا قادرًا على العطاءِ مستقبلًا وفلسفات التعليمِ باختلاف مشاربها تكادُ تجمع على ذلك وإن تباينت في مناهجِ تحقيق.
وقال معاليه إن الإعلامَ الحديثَ ليس خطرًا صرفًا، بل أن فيه من العناصرِ ما تُشكّل إن أحسِنَ فهمُها واستثمارُها فرصةً لتعزيز الهويّة الوطنيّة والحضارية وللتقدمِ بشتّى المجالات والمجتمعات البشرية بحاجةٍ إلى توجيهٍ قيميٍ من خلال التربية الإعلاميّة ومن خلال الخطاب الإعلامي المسؤولِ نفسِه لتتمكّن من تأصيلِ قيمِ المواطنة والحضارة والوئامِ بين الأممِ والحضارات والتقدمِ العلمي والالتزامات الأخلاقية. وأضاف معاليه أن الوجهَ السلبي لوسائل التواصل الحديثة هو أنها تُستخدم في أحيانٍ كثيرةٍ كمنصّات للإشاعات ولخطابات ضارّة، إن لم نقل مُدمّرة، للمجتمعات وللبشرية جمعاء، مثل الخطابات الفئوية بشتى أشكالها، وخطابات الكراهية، وخطابات التجهيل، وهذا ما نرى وجوب مناهضته من خلال التربية الإعلاميّة المسؤولة.
وأكّد معاليه أن عُمان المعاصرة التي قاد مسيرتَها لخمسين عامًا المغفورِ له بإذن الله السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيّب الله ثراه- تأسست على صدقِ الشعور الوطنيّ ومشاركة الجميع في بناء الوطن من خلال نشر التعليم والخدمات الصحيّة وغيرها من الخدمات في شتى بقاع عُمان، ومن خلال صدق الرسالة الإعلاميّة وهدوئها والتزامِها الوطنيّ، مشيرًا الى أن عمان اليوم في عهدِ حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- تسير على نفسِ الأسسِ في البناءِ الداخلي وفي العلاقاتِ الخارجيّةِ تحت شعار “عُمان نهضةٌ متجددة” يقودها جلالته بكل ثقةٍ واعيةٍ ورؤيةٍ راسخةٍ نحو مستقبلٍ أفضل في زمنٍ اضطربَ فيه العالمُ بأكمله تحت تأثيرِ الأزمات الاقتصادية وجائحة كورونا (كوفيد19) وغيرها من الأزمات غير الخافية”.
وأوضّح معاليه أن من أهم واجبات الإعلام العُماني ترسيخ مفهومِ المواطنةِ الحقةِ بكل أبعادها، وتنمية قدراتِ المواطنِ، وتوعيته بدورِه الأساسيّ في البناءِ والتنميةِ، والمساهمة في البنيةِ الثقافيةِ والتعليميةِ للمجتمع، بترسيخِ دعائمِ هويته ووحدته الوطنية ودورهِ في المحافظة على هذه المكتسبات، وتعميقَ تجربة المشاركة في اتخاذِ القرارِ وتحملِ المسؤولية، وتأصيل مبدأ العملِ كقيمةٍ دينيةٍ وحضاريةٍ بالإتقان في أدائه والتميز في عطائه وأن واجبات الإعلام العماني هو “المسؤولية الوطنيّة” المتعددة الأوجه والمجالات.
وأكد معاليه أن من أهم أوجه المسؤولية التي يُتوقع من التربية الإعلامية تعزيزها في زمنِ التقنية الحديثة ويسرِ التواصل الاجتماعي والإعلامي تقديم المفيد للوطنِ وللمجتمعِ وللبشرية جمعاء في ما يُطرح وترسيخ “السَّمتِ” (أي السكينةُ والوقارُ) في الطرح، وجودةَ الصنعةِ المهنيّةِ الإعلاميّةِ بالالتزام بضوابط الإنتاجِ في مختلف مجالات العمل الإعلامي.
من جانب آخر، ألقى الأستاذ الدكتور عبدالله بن خميس الكندي رئيس قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر كلمة قال فيها إن الكثير من المهتمين والباحثين في مجال التعليم الإعلامي يثيرون أسئلة متعددة تفتح المجال أمام قضايا بحثية كاملة في هذا المجال، مؤكدًا أن التربية الإعلامية أو التربية على وسائل الإعلام وضعتها اليونسكو في أعلى سلم مشروع تطوير الثقافة التعليمية في القرن الحادي والعشرين.
وبيّن الكندي أن التربية الإعلامية تعد منهجية تربوية لتعليم المتلقي كيفية قراءة الرسائل الإعلامية وتحليلها وتنمية مصادر التواصل التفاعلي والإنتاج الإبداعي، فهي ممارسة تربوية معرفية نقدية لوسائل الإعلام التقليدية والجديدة.
وأوضح الكندي أن جامعة وسكانسل الأمريكية تعد أول جامعة على مستوى العالم تؤسس برنامجًا لتعليم الصحافة و كان ذلك عام 1904 ثم اتبعتها مدرسة الصحافة في جامعة ميزوري عام 1908 وجامعة كولومبيا عام 1912 وما تزال هذه المدارس حاضرة إلى اليوم.
ويناقش المؤتمر لمدة ثلاثة أيام عددًا من أوراق العمل فيما يخص مجال التربية الإعلامية والتعليم والتدريب والتأهيل، إضافة إلى الدارسات الحديثة بمشاركة 20 ورقة بحثية من 20 دولة و73 مداخلة.
ويهدف المؤتمر إلى تسليط الضوء على تحولات العصر الرقمي وتأثيراتها على التربية والتعليم الإعلامي من زوايا فلسفية ومنهجية وتطبيقية عملية. كما يسعى المؤتمر في تحقيق مجموعة من الأهداف منها: تحليل ومناقشة الأطر الفلسفية والنظرية ذات الصلة بالتربية والتعليم الإعلامي في العصر الرقمي واستعراض وتحليل المناهج المعاصرة في التربية والتعليم الإعلامي مع التعرف على الاتجاهات والسياسات العامة المتعلقة بالتربية والتعليم الإعلامي عربيا وعالميا إلى جانب استشراف مستقبل التربية والتعليم الإعلامي وآليات تطويرهما.