أحد أبرز الباحثين الأمنيين في مجموعة البحث المتقدم في حلف الناتو، كريس دونللي، يؤكد في مقال له حول مناخات المخاطر الجديدة للعالم المعاصر: «لم تعد المخاطر التي تواجهها الدولة تتمثل بمهاجمة أراضيها، بل مهاجمة نسيجها، طبيعة مجتمعها، أداء مؤسساتها، ورفاه شعبها…. ومن الصعوبة بمكان تحديدها كمخاطر عسكرية… ومواجهتها بالوسائل والمنظومات الأمنية والعسكرية التقليدية». وهو يحذر من عدم الانسجام بين طبيعة المخاطر وبين الوسائل المستخدمة لمواجهتها، حيث تصبح إجراءات مواجهة المخاطر، بوسائل غير منسجمة معها، أكثر تدميراً من المخاطر نفسها.
القرن الواحد والعشرين، من أوصافه الكثيرة أنه عصر تعدد أشكال المخاطر وتعدد مصادرها في ذات الوقت. إذ أن تنوع المخاطر وتعدد مصادرها يفرض تعدد وتطوير وسائل مواجهتها. فلم تعد الوسائل تفرض منطقها على معالجة التحديات. فأكبر الأخطاء الاستراتيجية هي أن تستسلم الحكومات للوسائل المتاحة الآن كمرجع وحيد لتحديد خياراتها. والتخلي عن تطوير وسائل جديدة تنسجم مع تعدد أشكال المخاطر ومصادرها، يفقد الدول القدرة على تطوير الخيارات، ويحول الوسائل إلى عوائق وليس مراكب للتقدم.
القوة الدافعة للحداثة كانت (فكرة الآلة) صناعة منظومة فاعلية معقدة (آلات مركبة) من أدوات بسيطة ومباشرة. فمعظم الوسائل التي نراها يمكن ردها إلى واحدة من الادوات البسيطة التي اكتشفها الإنسان منذ قرون طويلة: العَجلة والأزميل أو السكين، العصا والنخل (العتلة)، والأبرة، والحاوية وعصا الجر أو الحبل. ولكن تكامل الادوات وتعدد أشكالها، وتعدد استعمالاتها هو الذي مكن من إنجاز طيف واسع من المهام، عبر طيف واسع من التشكيلات لذات الادوات. فكل ما ظهر من ماكينات (وآلات) وتقنيات هو تشكيل للادوات البسيطة الأساسية.
فالآلة تركيب «لمنظومة أدوات». فالبكرات آلة بسيطة مركبة من أداتين: العَجلة والحبل. والقطار البخاري، هو منظومة نقل تم استبدال الحصان بالآلة البخارية، ودخلت حياة الإنسان كمنظومة ادوات جديدة. وبقيت الآلات ذات فاعلية استثنائية في تشكيل الوعي الإنساني، وتشكيل المنظومات الاجتماعية، حتى بروز الثورة الصناعية الرابعة، التي اخضعت الآلة، وحرت الإنسان منها.
وربما استحقت الثورة التكنولوجية الرابعة عنواناً كبيراً وهو التحرر من هيمنة الوسائل ومن محدوديتها. من حيث انفتاح القدرات الإنسانية على تشكيل عدد كبير من الوسائل ومنظومات الفاعلية. فالتحرر من محدودية الوسائل يتضمن القدرة على تطوير الجديد منها. فالتكامل العضوي بين الأهداف والوسائل وطريقة توظيفها، لم تعد ميزة تكتشفها البشرية، بل قاعدة عملية لتوجيه التطوير المستمر للوسائل.
ولتوضيح تحرر الإنسان من محدودية الوسائل، هناك صورة كاريكاتيرية لشخص لا يتقن استعمال أداة غير المطرقة (الشاكوش)، التي تأسره بحيث يرى كل ما حوله مسامير تحتاج للطرق. فمن يستسلم لغواية الوسائل، ويعجز عن تطوير الجديد منها، فإنه يصبح أسير وسائله، ويحكم على نفسه بفشل محقق. والميزة التي حققت تفوق الإنسان، ليس التراكم الكبير لقوة وفاعلية اداة واحدة، بل هي تكامل الأدوات، من الآلة إلى منظومات الإدارة والتحكم. فالثورة التكنولجية الرابعة تتيح تشكيل وسائل فاعلية جديدة كلما دعت إليها الحاجة. وعنوات تعريف الحاجة هو: تحقيق الأهداف (بشقيها احتواء المخاطر وتحقيق المكاسب) ضمن شروط البيئة والفاعلية والجدوى.
لقد تحررت المجتمعات من وسائل عملها، وسيطرت عليها. فهناك إمكانات لا نهائية لتطوير وسائل جديدة، تنطوي على مخاطر، ولكنها تقدم فرص لتطوير منظومات ووسائل جديدة لاحتوائها. فتعدد مصادر الخطر، واتساع طيف انواعه، يفرض التطوير المستمر لوسائل احتوائه. وبدلاً من اختزال كل المخاطر ومواجهتها بوسائل عسكرية امنية، لا بد من تطوير الوسائل التي تنسجم مع طبيعة المخاطر الجديدة.