مع نهاية كل عام وبداية عام جديد .. يتحفنا العرافون والمنظرون والمشعوذون و “المجانين” بتوقعات (ماأنزل الله بها من سلطان ) من كوارث وزلازل وفيضانات ونهاية دول وحروب عالمية وانهيار أسواق عالمية ….إلخ فكيف إذا كان العام 2020 وبدايات العام2021 مصبوغ بجائحة كورونا وآثارها الكارثية على كافة البلاد والعباد ؟!
وهنا لا بد لنا أن نعترف بأن جائحة كورونا غيرت العالم والعادات والتقاليد والأعراف سواء على مستوى الدول أو على نطاق الأسرة والمجتمع ، وكان لها آثار مدمرة وكبيرة على كافة الصعد (وكشف الكثير من الخلل في معظمها ) ومنها:
1- الجانب الاقتصادي :
لقد تأثر الاقتصاد بكافة دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في ظل جائحة كورونا نتيجة الخلل في دوران عجلة وآلية الانتاج والاستيراد والتصدير والاستثمار ، وأغلقت الكثير من الشركات أبوابها وتغيرت طبيعة العمل وارتفعت نسبة البطالة نتيجة الاغلاقات والقرارات المتضاربة بسبب الجائحة ، حيث فقد الكثيرون أعمالهم وحل الفقر بين الناس .
وقد تمكنت الصين بعد احتواء الجائحة مبكراً بالعودة باقتصادها تدريجياً بعد أن واجهت صعوبات بالغة مع بداية الجائحة .
كما قامت بعض الدول بالتأقلم بسرعة وغيرت من نمط الحياة والعيش ، وكان الاعتماد على الذات هو السبيل الوحيد لما تبقى من الدولة ، وانتقلت بعض الدول من الاعتماد على اقتصاد الخدمات والسياحة إلى الاعتماد على الزراعة والصناعة والتكنولوجيا الرقمية في شتى مجالات الحياة بما فيها التعليم والعمل والتعامل مع العالم الخارجي .
2- الجانب الصحي :
لقد كشف هذا الفيروس الخلل الكبير في الأنظمة الصحية لكثير من الدول المتقدمة والعظمى وبين أن الأنظمة الصحية فيها واهية كبيت العنكبوت ما لبث أن انهار سريعاً تحت وطأة هذه الجائحة فكان لا بد من مراجعة كل ما يتعلق بالمنظومة الصحية لمعظم الدول .
وقد برزت هنا بوادر أمل لمعالجة هذه الجائحة عبر انتاج عدد من اللقاحات والتي ما زالت قيد الاستخدام الخجول .
3- الجانب الاجتماعي والنفسي :
لقد فرضت الجائحة نمطاً جديداً من الحياة على الناس بسبب التباعد وطرائق التواصل ، فاضطر الكثيرون بسبب الاغلاقات المتكررة لتغيير أسلوب حياتهم فأصبحوا ينامون بالنهار ويسهرون بالليل ، وارتفعت نسبة البدانة وخصوصاً لدى الأطفال ، وتأثر الكثيرون نفسياً بسبب قلة التفاعل الوجاهي وانقطاع صلة الرحم واقتصار التواصل عبر التقنيات الالكترونية والهواتف ، كما تجمدت النخوة والأصالة وأصبحت لقمة العيش هي المبتغى وهي الهدف لمعظم الناس ، وحلت أدوية الكآبة بدلاً من الرياضة .
ومن هنا ، وفي ظل هذا النمط من الحياة …وجد العرافون والمبصرون و ” المجانين” الأرضية الخصبة لنشر ثقافتهم وزيادة التشاؤم واليأس والكآبة بين الناس ، ولأن معظم الناس لا يوجد لديهم المعلومات والمعرفة الكاملة ببعض الأمور الاقتصادية ومكامن الضعف والقوة للدول العظمى، انخدعوا بهولاء العرافين فمنهم من توقع حرباً عالمية بين الصين وأمريكا ودمار العالم ( مع أن المتعمقين بمعرفة طبيعة العلاقة بين الدولتين يعلم متانتها و قوتها لأنها مبنية على المنفعة المتبادلة) مع أن دمار احداهما يعني دمار الأخرى …فهل يعقل أن يكون هناك حرب مثلاً (لتبسيط الفكرة ) بين مزارع الأبقار ومصانع الألبان ؟!! فالمزرعة بحاجة للمصنع لتصريف الحليب ، والمصنع بحاجة للمادة الأولية للتصنيع !!
وأما من توقع الزلازل والكوارث والفياضانات ، فإن هذه الظواهر تتكرر كل عام في القارات جميعها ، وهذا يعتبر تحايلاً على عقول الناس النائمة في بيوتها . وذلك دون التفكير بالواقع ومعالجة مشاكلنا بالعمل الجاد والتحدي والانتصار على هذا الواقع مهما كان أليماً …وأن نتخلص من نشر المعرفة السطحية دون أن نغوص للعمق وننقل الناس للمعرفة المنطقية العميقة …
وهنا يحضرني قول الإمام الشافعي :
البحر تعلو فوقه جيف الغلا
والدر مطمور بأسفل رمله
وأعجب لعصفور يزاحم باشقاً
إلا لطيشه أو لخفة عقله
4- الجانب المتعلق بالتعليم والتعليم العالي :
لقد قطع العالم شوطا كبيرا في مجال التعليم الالكتروني والتعلم عن بعد وتأسيس المدارس والجامعات الرقمية والافتراضية؛ فقد تم تطبيقها في بعض الدول منذ أكثر من ۲۲ عاما مثل مدرسة فلوريدا الافتراضية (FIVS) التي تأسست عام ۱۹۹۷ وجامعة فينكس ” University of Phoenix ” وغيرها من المؤسسات التعليمية والجامعات العريقة مثل جامعة هارفارد وكولورادو التي تدرس برامج أكاديمية من خلال التعليم عن بعد.
بعد عام من الجائحة، نحن اليوم لا نملك جميع هذه المقومات ونفتقر لوجود نظام إدارة تعلم إلكتروني شامل ” LMS ” يتماشى مع المعايير العالمية لمثل هذه الأنظمة، وان يكون المحتوى الرقمي التفاعلي مبنياً على المعايير العالمية لتطوير المناهج الإلكترونية مثل Quality Matters كي نضمن أن أبناءنا الطلبة يتفاعلون مع محتوى الكتروني تفاعلي جذاب ويبث الحياة في المناهج التعليمية ويتفاعلون مع معلميهم عبر التعليم التزامني من خلال تطوير برمجيات نوعية خاصة. وعلينا أن ندرك أيضا أن التعليم الالكتروني ليس مقتصرا على الفيديوهات السردية التي تبث للطلبة عبر بعض المنصات أو بعض التطبيقات الأخرى ، لذا يجب أن يكون النظام الإلكتروني متكاملا مع كافة الأنظمة المدرسية / الجامعية وأن يدعم أحدث إصدارات متصفحات الانترنت جميعها وعلى كافة أنظمة التشغيل، وأن يتيح النظام كذلك للطالب إمكانية أداء أنشطته التعليمية (واجبات ، منتديات ، حصص ، محاضرات ) والتفاعل معها، وأن يدعم أحدث التقنيات العالمية في تحليل البيانات وأداء المستخدمين والتحليلات الإحصائية الذكية، وان يخدم المختبرات الافتراضية ” VR ” خاصة للمواد العلمية التطبيقية.
5- الجانب المتعلق بالقطاع الرياضي والسياحي :
كان أثر الجائحة كبيراً على هذين القطاعين الهامين في أي بلد من بلدان العالم ، فكان الضرر كبيراً للغاية لأن السياحة والرياضة تعتمدان على التسويق والتجمعات والتشغيل ، فالأولى فنادق ومنشآت سياحية بلا زوار … والثانية مدرجات بلا جماهير !!.
*** وبعد أن توقفنا بسرعة عند أهم الجوانب والتأثيرات السلبية للجائحة على مختلف القطاعات في العالم ، دعونا نعود للحديث عن بلدنا الأردن الذي استطاع الصمود وتجاوز المحن والصعاب رغم ضعف الامكانات الاقتصادية وذلك بوجود الموارد البشرية المدربة والمؤهلة وبفضل عزيمة الشباب في كافة القطاعات .
حيث أثبت الأردن بعزيمة قائده جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم وولي عهده الأمين الأمير الحسين ابن عبد الله الثاني ، وبالتوجيهات الملكية الحكيمة وعزيمة العاملين في القطاعات الصحية والزراعية والصناعية والتعليمية ، أثبت قدرته على تجاوز هذه المحن ، ورغم الضرر الذي لحق بنا أسوة بجميع دول العالم ، إلا أننا تفوقنا بإمكاناتنا المتواضعة على دول عظمى سبقتنا في التقدم العلمي والتكنولوجي والمادي .
ولكن ؟! هل يستطيع الأردن أن يبني على هذه التجربة والانجازات ويستفيد من الدروس ليجابه ما هو قادم (المجهول) ؟!
نعم يستطيع ذلك ولكن يجب الاستفادة من أخطاء الحكومتين السابقة والحالية والتي منها:
1) عدم الارتجال في القرارات بالإغلاقات غير المدروسة جيداُ وآثارها السلبية من كافة الجوانب .
2) عدم التردد بأخذ القرارات الصائبة ، وانتظار أن يقوم جلالة الملك (حفظه الله) بتوجيه الحكومة لاتخاذها، سواء في قطاع التعليم (في المدراس والجامعات) أو في القطاعات الاقتصادية والخدماتية المختلفة .
3) السير وفق خطة استراتيجية (مصفوفة واضحة) تأخذ بالحسبان كافة التطورات والمفاجئات
4) الاسهام في توجيه الوعي المجتمعي بشتى الوسائل وليس الاكتفاء بالشعارات أو اللجوء للغة التهديد والوعيد .
*** ومن هنا …فإنه واجب علينا أن نتخذ الخطوات التالية لنحافظ على المسار ونحصن أنفسنا وبلدنا بشكل أكبر:
· اولا : الإصلاح السياسي :
يجب البدء بتنفيذ خطة شاملة للإصلاح السياسي بإيجاد قانون انتخاب عصري وتشجيع انشاء على الأقل ثلاثة أحزاب قوية تمثل المجتمع بشرائحه جميعها مثل حزب العمال وحزب المحافظين في بريطانيا ويكون هنالك دعم حقيقي وقوي من الدولة ماليا ولوجستيا في المرحلة الأولى واختيار ممثلين للحزبين من جميع الاطياف من مفكرين وسياسيين واقتصاديين وشباب وفنانين ورياضيين.. الخ.
وبالتالي نضمن وصول نواب على مستوى محترم من الفكر والبرامج الواقعية المفيدة للمجتمع والوطن ونضمن مجلس تشريعي ورقابي قوي يستطيع فرض وجوده ورقابته على السلطة التنفيذية الممثلة بالحكومة.ان التواصل والحوار من قبل النواب او الحكومة مع جميع أطياف الشعب من اقتصاديين وسياسيين وشباب ورياضيين… الخ هو أساس نجاح الدولة وبرامجها ونقصد بالتواصل بان ينزل النواب والوزراء الى الميدان لمعرفة ما يجري على حقيقته وهذا ما دعا له جلالة الملك حفظه الله.
· ثانيا : الاعتماد على الذات بالأمن الغذائي عن طريق التوسع في الاستثمارات الغذائية والدوائية، وفي هذا المجال ، لا بد من الاعتزاز بخطوة جلالة الملك بتوزيع الأراضي الزراعية على الشباب تشجيعاً لهم ولهذا القطاع الحيوي الهام .
· ثالثا: فتح باب الابتكار والاختراعات لابناء الشعب بإعطائهم فرصة لاثبات أنفسهم ..فلماذا لا نصبح من العالم المنتج المبتكر وليس مم ينتظرون الرحمة والمساعدة من الغير ؟!.. مع أن دول أخرى بحجم الأردن أبدعت وأصبحت من الدول المتقدمة في مجالات عديدة ومنها ايرلندا مثلاً في مجال (IT) .
· رابعا: وضع خطة استراتيجية لغاية العام 2030، مدروسة وواضحة تكلف بها الحكومات المتعاقبة من قبل مجلس سياسات لديه عقول وقامات اقتصادية وسياسية واجتماعية وشبابية ورياضية …إلخ بحيث يتم وضع منظومة عمل متكاملة حسب إمكانيات وواقع البلاد بحيث يتم القيام بعمل (Swat Analysis) لمعرفة نقاط القوة والضعف والتهديدات والفرص المتاحة للبلد على المدى القصيروالمتوسط والبعيد ، وبالتأكيد استغلال نقاط القوة والفرص المتاحة أمامنا وتخفيف نقاط الضعف وتجاوزها وتجنب التهديدات المستقبلية ….ومثال على ذلك التركيز على الأمن الغذائي وتشجيع الاستثمارات الزراعية والصناعات الغذائية المرتبطة بها، ودعم المزارعين وتوجيه الشباب للزراعة التكنولوجية الحديثة التي لاتحتاج لمساحات كبيرة من الاراضي مع زيادة الانتاجية بزراعة محاصيل ومزروعات محسنة جينياً ، وربط هذه المحاصيل والمنتجات الزراعية بمصانع تحويلية ( مثل البندورة وصناعة رب البندورة).
· خامسا: وعليه علينا أن نؤمن بان قطاع التعليم يجب ان يكون في صدارة اولويات الحكومة والارتقاء بمستوى التعليم والعملية التربوية وإحداث نقلة نوعية متميزة وبجودة عالية تواكب التطور التربوي والتعليمي الالكتروني إقليمياً وعالمياً، وتوفير خدمات تعليمية عالية الجودة وتطبيق الاستراتيجيات الحديثة التي تساهم في رفع كفاءة الأداء التعليمي والتربوي والمؤسسي، ويجب علينا أن نعمل على:
1. فيما يتعلق بالجامعات فيجب التركيز على أن تصبح جامعات ذكية رقمية بحثية نوعية واستثمارية ، وهذا هو التحدي الذي تواجهه كل جامعات العالم ، وهذا و المستقبل الحقيقي الذي يفصل بين استمرار الجامعات أو اغلاقها في العشر سنوات القادمة .
2. تطوير البنية الالكترونية والتقنية في قطاع التعليم وإنشاء نظام تعليم إلكتروني شامل ضمن المعايير العالمية المعتمدة في التعليم عن بعد والتعليم المدمج، ويجب أن تشمل على تزويد المدرسين والادارات المعنية بتقارير مفصلة عن أداء الطلبة وقياس وتقييم أداءهم التعليمي بشكل يومي کي تضمن نجاح العملية التعليمية والتعلمية.
3. تطوير المحتوى الالكتروني للمناهج التعليمية كاملة تطويرا تفاعلياً وان يكون مبنياً على أسس النظرية البنائية والمعرفية وتطبيقاتهما وذلك لتعزيز عملية التعلم الذاتي وتشجيع الطلبة على المناقشة والحوار، وعرض المحتوى الإلكتروني بأساليب متنوعة وممتعة وسلسة في التصفح، على أن تكون طريقة العرض بأسلوب بسيط وسهل، وإثراء المحتوى وتعزيز مخرجاته بسيناريوهات وأسئلة تفاعلية متنوعة تنمي تفكير الطلبة وتقديم التغذية الراجعة عند كل سؤال، وتضمين المحتوى بالمفاهيم والمصطلحات والكائنات التعليمية الكل درس ( محاضرة ) وشرحها من خلال فيديوهات تفاعلية قصيرة والإنفوجرافيك والأنيميشن وغيرها.
4. تدريب المدرسين على استخدام التكنولوجيا في التعليم والتعليم الرقمي وإكسابهم المهارات اللازمة الضرورية، خاصة الاساليب الحديثة المتنوعة في التعليم الالكتروني واستراتيجياته.
5. التعليم عن بُعد يُعدّ اليوم ضرورة أساسية لتحقيق مجتمع المعرفة، والاردن ليس بمعزل عن التعلم الإلكتروني وعصر المعرفة على الرغم من بعض التحديات، لكن يجب علينا أن نحدّد رؤية مستقبلية واضحة بخصوص العملية التعليمية، وأن يكون التعليم الإلكتروني أحد عناصر هذه الرؤية بل أحد السياسات التي يمكن الإفادة منها، وتعزيز الشراكة بين القطاع العام والخاص في هذا المجال.
· سادسا : دعم القطاعات السياحية والرياضية والثقافية المتضررة في ظل الجائحة وإيجاد كافة السبل لتنشيطها والتسويق لها مع الأخذ بالاعتبار الاجراءات الصحية الوقائية المتبعة .
· سابعا : التوعية المجتمعية ضمن خطط تفاعلية مدروسة تستند إلى دراسات علمية تحليلية سواء بالنسبة للجائحة والالتزام بمعايير السلامة والأمان ، أو بالمخاطر والتهديدات ودور كل فرد في المجتمع في البناء والتنمية والتطوير .