أيام الصِّغَر في شارع اديب اسحق، كان اهل الحيّ خليطاً من المستورين المتفاوتة احوالهم وارزاقهم، لكنهم جميعاً على خلق واحد. في المساء يعود ارباب البيوت الى بيوتهم، وتُغلق دونهم ودون عائلاتهم ابواب الرضا. وكان لهذه القاعدة الوادعة مخالفة رجل لا يرتضي حصار القلة والانكسار، فينصرف الى التمرد في بطحة، أو بطحات من العرق، تغير المشهد البائس في وجوده، وتبلل عروقه بالاوهام، فيروح يصرخ ساخطاً: “أنا الزعيم ابو ليلى” إلى ان ينام.كان الرجل مسالماً غير مؤذ. لكن المشكلة كانت في الحرج الذي يسببه لعائلته بين الجيران. وما من حل: لا للعائلة ولا للجيران. لكن اهل الحي، صغاراً وكباراً، تعلّموا انه إذا كان لا بد من زعامة، فليست في “الزجاجات الثلاث التي لهن هدير”، كما أنشد الأخطل الأول في حضرة امير المؤمنين. اما الأخطل الصغير فتعلم الدرس وقال: يشرب الكأس ذو الحجى / فيبقي لغد في قرارة الكأس شيا. والحجى في مقصد الأخطل الصغير، الفطنة. ولم يكن امير النقاد مارون عبود معجباً بأمير الشعراء، فكان يشير إليه باسمه الأول، بشارة، كما يتندّر اهل الجبال في معايرة بعضهم البعض.
بعد الخروج من شارع اديب اسحق، وعالمه البسيط والمتواضع، الى العالم الصعب والقاسي والمتقاتل، وجدنا الناس في صفوف خلف زعامات طيبة او راعية أو قاتلة أو عصارة التفاهات. وبعضهم لم يكفه هوس الزعامة، فادّعى الامجاد. وعندما سافرت في ما بعد الى اوروبا واميركا، اكتشفتُ أن عقوداً من الحروب والدوقيات قد حلّت معضلة هذا الضعف البشري من خلال الممارسة الديموقراطية: هنا، كلمة الزعيم، Leader، لا تعني ان الناس اتباع وجماهير مصفقون. إنه مجرد لقب تنظيمي، يُخلع عن صاحبه مع انتهاء التفويض الانتخابي. كأن تقول، مثلاً، نانسي بيلوسي، “زعيمة” الغالبية الديموقراطية ورئيسة مجلس النواب. وقبل ان تكمل اي كلام، عطفك ايتها السيدة الرائعة، ضمّينا الى زعامتك. ألم ترَ كيف جاءت هذه المرأة الناحلة الى جلسة اتهام #ترامب، مغمورة بالسواد الكثير، لما فعله الرجل بالمسار الديموقراطي؟ ألم ترَ أنها منذ فوزه، وهي تسميه “دونالد” على طريقة مارون عبود و”بشارة”؟ ثم ماذا انك اصبحت رئيساً، اين هي الرئاسة فيك؟ اين استحقاقها وسلوكها واحترامها؟ وماذا تعني رئاسة اميركا من دون احترام؟ ماذا يعني العالم كله من دون نعمة الاحترام؟ “قالها ومشى: ماذا ينفع ان تربح العالم وتخسر نفسك”؟ اللقب وحده ليس ضمانة لشيء.
ما يزال الفارق هائلاً وعظيماً، بين الأمم المتهالكة الانظمة، والدول التي فيها نساء مثل نانسي بيلوسي ومجلسها. لم اكن اصدق نفسي وانا اسمع دونالد ترامب يكرر كلاماً كأنه مأخوذ حرفياً من معمر القذافي. ها هو يقول: “انا لديّ الملايين من المؤيدين. الملايين”. وذاك يقول: “أنا قائد أممي تدافع عني الملايين”. اظهر معمر القذافي ودونالد ترامب ردة الفعل نفسها امام حقيقة الخسارة. الغضب نفسه. المناداة على اتباعه. اللغة المبطنة بالعنف والتهديد. اطلاق الزعران في إثر الاوادم. وفيما كان مخربو الكونغرس يحتلّون غرفه ومكاتبه، كان ترامب يخاطبهم قائلاً “اننا نحبكم”. مازالت الطيور على اشكالها تقع.
ميزان البشرية لا يتغير: عقل وخلق. منذ وصول ترامب الى البيت الأبيض، كان لدي اقتناع كلي، بأن النظام الاميركي والعالمي، لن يستطيع تحمّل هذا المشهد الاستعراضي المؤذي المنفّر. هذا الانتفاخ المريع بالذات واللهجة القليلة التحسب في مخاطبة الشرق والغرب، ورئيس اميركا يقول: “لن يستطيعوا مهاجمتي لأنني شديد الوسامة”. تعويضاً عن الفقر الصحراوي الذي عاش فيه معمر القذافي، راح يجمع الألقاب بلا حساب: أمين القومية العربية. الأخ القائد. القائد الملهم. صاحب “الكتاب الأخضر” و”النظرية العالمية الثالثة” لإنقاذ البشرية ومنها: “للمرأة حق الترشح سواء كانت ذكراً أو أنثى” و”برّ الوالدين اهم من طاعة امك وابيك”.
يصادف ايضاً أن يصل الى رئاسة اميركا، وبالانتخاب، رجل كاد يضع على رأسه تاج معمر. تتداول فرنسا كتاب حديث (1) الذي لم يعد له لقب ولا مرتبة ولا صفة، عملاً بنصيحة مواطنه المذهل فولتير، النعوت تقتل اللغة، وبين فرنسوا ميتران. دعك من الأول، فقد اصبحت سيرته معروفة في التعفف مثل سيرة المسيح وفرنسيس الاسيزي. اما الثاني، الذي اصبح هو ايضاً صاحب الاليزيه، فعند وصوله كان قد تنقل في اليمين واليسار وكل شيء، واقنع الجميع بأنه معهم. وحمل الى الاليزيه ابنة غير شرعية، وصار يستشير بصّارته في شؤون الدولة كل يوم. وفي شأنه ايضاً. ارسل “الفرنسيون” ديغول الى قريته وانتخبوا ميتران مرتين. المشكلة أن لا احد يحاسب الجماهير التي تقترع وتتحمس وتحرق باريس خلف قديسها التالي بعد جاندارك، ثم تنتخب ميتران أو ساركوزي. وتذهب الى النوم أو الحانة. فالهوس الجماهيري ليس قابلاً للمحاسبة. الرموز وحدها تحاسب، وهذه هرطقة وجدانية وضمائرية. هناك 75 مليوناً اقترعوا مرتين لترامب. الرئيس الوحيد الذي حوكم مرتين ايضاً. الرئيس الذي انفضّ عنه في ايامه الأخيرة كل من حوله، بمن فيهم كبير مستشاريه، جاريد كوشنر. لا. المشهد ليس محزناً على الاطلاق. فهو ما زال يثور ويخور ويعربد ويرفض العرف والدستور ويعمل على شق اميركا. هو اولاً، وليس اميركا اولاً. في هذه الحالات المرضية تصبح اميركا اخيراً. صاح القذافي في وجه مواطنيه، عندما قالوا له كفاك 42 عاماً: من انتم؟ جراثيم. جرذان. أنا قائد اممي.
لم يكن احد يتوقع ان يحدث ذلك في الغرب، حيث تضبط البنود حالات الهيجان الجنوني، وينهي العقلاء الحالات التي يؤدّي تماديها وتفاقمها، الى شيء مما شهدناه على تلة الكابيتول، حيث بدا، لوهلة، أن روما الحديثة سقطت بين ايدي الرعاع، كما هوت الأولى امام هجمات البرابرة. انعكست هزيمة ترامب، ثم اهانته على اشباهه في اوروبا والعالم، كما انعكس عليهم فوزه من قبل. الصمت بدل الاحتفال بانتصار الشعارات المناقضة لكل ما حققته الإنسانية من غلبة على الرفض النرجسي. رفض ترامب مصافحة اوباما في حفل تنصيبه، ويرفض الآن حضور حفل تنصيب بايدن. ذلك هو الحفل الذي دعا جون كينيدي شاعر اميركا، روبرت فروست، الى ان يكون خطيبه. وذلك هو الخطاب الذي يعتبر رؤساء اميركا انه اهم كلمة يلقونها في حياتهم. ترامب اختار تويتر. وحتى تويتر تبرأ منه. ومساعدوه. وموظفوه. ونائبه. وراح تجّار نيويورك ينسحبون من مشاريع شركاته. اعطي البيت الأبيض لكي يدير اميركا، فاعتقد أنه فرع من ترامب تاور. وكانت النتيجة تشبهه. (The End. (1 “حياتان متوازيتان” – للكاتب ميشال أونفري