لا يريح العالم أن تكون أميركا مأزومة
هل «الديمقراطية» تعفّنت؟ هل فشلت في إزالة العنصرية؟
هل العلّة في النظام الانتخابي أم في إدارة الاقتصاد أم في العقل السياسي؟
سنحت الفرصة لأعداء أميركا كي ينتقدوا ويشمَتوا، لكن هل هم مؤهّلون لإعطائها دروساً؟
الديمقراطية الأميركية حاجة داخلية بمقدار ما هي حاجة دولية فالولايات المتحدة تمسك بمقاليد النظام العالمي الاقتصادي والمالي والسياسي.
* * *
صُدم العالم بأعمال الشغب داخل مبنى الكونغرس الأميركي. لكن سيناريو العنف بدأ يلوح في الولايات المتحدة قبل أسابيع من الانتخابات الرئاسية مطلع نوفمبر 2020.
ظهرت ميليشيات، أُطلقت تهديدات، بُثّت صور لمسلحين، نُشرت توقّعات لرفض نتائج الاقتراع قبل فترة من حصوله، وجرى التشكيك مسبقاً بسلامة العملية الانتخابية ثم التأكيد بأنها ستشهد تزويراً، بل صدرت اتهامات مبكرة بمحاولة «سرقة» الانتخابات عبر التصويت المبكر.
وحين وُجّهت الدعوة إلى التظاهر في السادس من يناير، كان متوقّعاً أن هذا اليوم الحاسم في تثبيت المرشح الفائز جو بايدن لن يمرّ عاديا!
ومن الواضح أن المجتمعين في «الكابيتول»، «جمهوريين» و«ديمقراطيين»، وحتى الشرطة التي أحاطت به، كانوا يعتقدون أن الأمر لن يتخطّى مجرد التظاهر والاحتجاج، لكنهم أخطأوا في تقويم الانقسام الحاصل في أميركا، رغم أنه كان جليّاً قبل الانتخابات وبعدها.
كان الهدف وقف الإجراء الدستوري الممهّد لتنصيب الرئيس المنتخب، أي تعطيل العملية الديمقراطية التي تُعتبر قدس الأقداس في النظام الأميركي، فمن دون الاعتراف بهذه الديمقراطية واحترامها والرضوخ لقوانينها وقواعدها، قد يعمّ العنف والشغب كل أرجاء الولايات المتحدة وليس فقط مبنى في واشنطن.
لذا وقع اللوم على مَن جلب المتظاهرين وخاطبهم، أي الرئيس ترامب، الذي ما لبث أن دان أعمالهم وتبرّأ منها، لكن بعد فوات الأوان. فما حصل كان غير مسبوق تاريخياً ولا يمكن تفويته كأنه حادث عابر.
يريد خصوم ترامب داخل الحزب الجمهوري ضمان طيّ صفحته في حزبهم وإنهاء تأثيره السياسي خارج البيت الأبيض وعدم ترشّحه في 2024. أما الخصوم «الديمقراطيون» فيريدون عزله لمنع تكرار الظاهرة التي شكّلها خلال رئاسته.
كان من الطبيعي أن يثير الحدث قلقاً وخوفاً في عواصم الغرب، فالناطق باسم الحكومة الألمانية قال: «لا نملك رفاهية النظر إلى ما حصل في واشنطن والقول إن هذا لا يمكن أن يحدث هنا أبداً»!
كان العبء الملقَى على الرئيس الجديد ثقيلاً، لكنه تضاعف بعد غزوة الكابيتول، فالمبنى لم يشهد منذ تأسيس الكونغرس قبل 232 عاماً أي اعتداء «شعبي» مماثل.
تعاظمت مسؤولية بايدن داخلياً وخارجياً.
فخلال العام الماضي دارت احتجاجات «حياة السود مهمّة» كما لو أنها «حرب أهلية» فتركت آثاراً عميقة في المجتمع وبدا تحطيم بعض التماثيل والمعالم نوعاً من المراجعة لتاريخ البلد. ومطلع هذه السنة ها هم الكتاب والمعلقون البيض ينتقدون تقصير الشرطة في التعامل مع مجموعات البيض الذين انتهكوا حرمة الكونغرس.
هل «الديمقراطية» تعفّنت؟ هل فشلت في إزالة العنصرية؟ وهل العلّة في النظام الانتخابي أم في إدارة الاقتصاد أم في العقل السياسي؟ سنحت الفرصة لأعداء أميركا كي ينتقدوا ويشمَتوا، لكن هل هم مؤهّلون لإعطائها دروساً؟
في أي حال ليست المشكلة في الديمقراطية الأميركية بل في تطبيقها، وهي حاجة داخلية بمقدار ما أنها حاجة دولية، طالما أن الولايات المتحدة تمسك بمقاليد النظام العالمي في جوانبه الاقتصادية والمالية والسياسية. لا يريح العالم أن تكون أميركا مأزومة.
ورغم أن المآخذ كثيرة على سياساتها الخارجية، إلا أن بديلها من الأقطاب الدوليين لم يوفّر نماذج يمكن اعتمادها، لا بمعايير العدالة والحرية وحقوق الإنسان، ولا بمعايير السياسة الرشيدة.
أزمة وباء كورونا أرهقتهم جميعاً، وفشلهم في تعديل سياساتهم لوقف النزاعات المسلحة كشفهم، وهروبهم من واجباتهم تجاه مستقبل السلم العالمي أزال الفوارق الأخلاقية في ما بينهم.
* عبد الوهاب بدرخان كاتب صحفي لبناني