في دفاعهم عن الليبرالية وقيمها، يميل ليبراليون إلى النأي بها عمّا باتت تعرف بالليبرالية الجديدة وسياساتها المتوحشة، واعتبار الأخيرة نتوءاً عارضاً على جسد الليبرالية الأصلانية التي سرعان ما ستلفظه وتستعيد عافيتها. ويقولون إن الديمقراطيات الغربية لا تتوافق، ولا يمكنها التعايش، مع الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الداخلية منها والخارجية، لليبرالية الجديدة والمتوحشة. يفهم من هذا الكلام أن ثمة عصرا ذهبيا مرّت به تلك الديمقراطيات، سادت فيه العدالة والمساواة، وغاب عنه النهب والاستغلال، فكانت أنظمة الحكم منحازة للسلم والسلام، ولقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم! الحقيقة أن التوحش والاستغلال، واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وشن الحروب واستعمار الشعوب ونهب ثرواتها، والتحالف مع أنظمة الاستبداد، كانت قد وسمت بميسمها الأنظمة الليبرالية منذ نشأتها. وما يحصل اليوم ما هو إلا طبعة جديدة من سياسات قديمة. قد يكون متغيرها الأبرز، وربما الوحيد، هو الفجاجة والوقاحة في التعبير عنها. ولنا في الترامبية مثال نموذجي لها، وكذلك الماكرونية لمن شاء.
قبل أربع سنوات، تمكّن دونالد ترامب من الوصول إلى البيت الأبيض، ببرنامج انتخابي، كانت تفوح منه رائحة الاستغلال والجشع والإفقار، والعنصرية تجاه الملونين، والعنجهية تجاه الشعوب الأخرى! خلال حكمه، دعا ترامب الجيش إلى النزول إلى الشوارع، لمواجهة التظاهرات التي شهدتها المدن الأميركية في أعقاب مقتل الأميركي الزنجي، جورج فلويد، على يد أحد رجالات الشرطة. لحسن الحظ، لم يستجب أصحاب القرار في المؤسسة العسكرية حينها لطلبه. ولكن السؤال هو: لو أن ترامب فاز بفترة رئاسية ثانية، فما الذي كان سيحول دون وجود من هم على شاكلته في قيادة المؤسسة العسكرية؟ وفي حال خرجت تظاهرات، لسبب أو لآخر، من كان سيضمن، ألا ينفذ الجيش، هذه المرة، أوامر الرئيس بقمع تلك التظاهرات؟
بعد مقتل الصحفي السعودي عدنان خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، وهي جريمة واضحة مكتملة الأركان، واصل ترامب سياسة ابتزاز الأموال ممن يفترض أنهم أصدقاء وحلفاء، وغرّد متباهيا بذلك، من دون اكتراث بما يسببه لهم من حرج وإهانة. ووصلت الفجاجة به حد القول في مديح وزير الخارجية السابق في إدارته، ريك تيلرسون، “كان يدخل دولة ويأخذ نفطها ثم ينتقل إلى الدولة التالية”!
أما فرنسا الماكرونية، فقد شهدت، خلال العام الماضي، تظاهراتٍ عارمة نظمتها حركة السترات الصفراء، احتجاجاً على سوء الأوضاع المعيشية، واتساع الفروق الطبقية بين الفرنسيين. واليوم، تستمر التظاهرات في المدن الفرنسية، احتجاجاً على قانون الأمن الشامل الذي يهدف إلى شرعنة القمع وتوسيعه، والحد من حرية الصحافة. وقد واجهت السلطات الفرنسية، بأذرعها الأمنية والشرطية، كل تلك التظاهرات بالقمع، واستعارت من أنظمة الاستبداد خطابها المعهود لتبرير قمعها لشعوبها، فقسّمت المتظاهرين إلى فئتين، السلميين ذوي المطالب المشروعة والمندسين الذين يمارسون العنف ويثيرون الشغب!
يبدو واضحاً أن هناك تقاطعات كبيرة بين الترامبية والماكرونية، على صعيد السياسات الداخلية والخارجية. ولذلك، لا يجب الاستغراب، من أن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، هو الديكتاتور المفضل، ليس في نظر ترامب فقط، بل أيضاً بالنسبة للرئيس ماكرون الذي فرش لطاغية مصر في زيارته أخيرا فرنسا السجاد الأحمر، وقلده وسام “جوقة الشرف”، وهو أرفع وسام فرنسي، غير آبهٍ بما يتعرّض له الشعب المصري من قمع وتنكيل وتجويع على يد نظام السيسي. وأعلن الرئيس الفرنسي، بوضوح، إنه يجب الفصل بين ملف حقوق الانسان في مصر وملف المصالح الاقتصادية بين البلدين. وأن بيع السلاح لن يمنعه أن المتربع على كرسي الرئاسة المصرية ديكتاتور لن يتوانى عن استخدام السلاح الفرنسي في قمع شعبه.
في محاضرة له بعنوان “في الحرية”، يعرّف الفيلسوف، كارل بوبر، الديمقراطية بأنها القدرة على إزاحة الحاكم من دون إراقة دماء. لكن ماذا، إذا ترتب على إزاحة الحاكم، ترامب نموذجا، إراقة الدماء في بلدان أخرى؟ لقد بيّنت الانتخابات الرئاسية الأميركية وتداعياتها أن الرئيس الأميركي، وأعدادا لا يستهان بها من قيادات الحزب الجمهوري، مستعدون لفعل أي شيء، حفاظاً على سلطتهم ومصالحهم، بما في ذلك الانقلاب على ديمقراطية صندوق الاقتراع، وإشعال حروبٍ خارجية، وإراقة دماء كثيرة، قبل مغادرة ترامب البيت الأبيض، فهل يصح الاستمرار في وصف هذه الأنظمة بالديمقراطية؟ أو ليست الدماء التي تسفك على يد المستبدّين والطغاة، بغطاء ورعاية وحماية، من تلك الأنظمة دماء أيضاً، أم أن “دم عن دم بيفرق”؟!
يقول بوبر “التخلي عن الحرية هو بمثابة التخلي عن أن تكون إنساناً”. ويتابع “أزعم إن العالم الغربي الديمقراطي، ليس أفضل العوالم السياسية الممكنة منطقيا، أو التي يمكن تصوّرها، ولكنه أفضل العوالم السياسية التي عرفنا بوجودها تاريخيا”. هذا صحيح. ولكن، إذا كانت الحرية هدفا بحد ذاته، وهي كذلك كما أظن، إلا أنها ليست الهدف الوحيد للبشر، ويجب أن تترافق مع العدالة، وفق تعبير آيزايا بيرلين في كتابه “الحرية”.
قد يكون الوصول إلى ما وصلت إليه الديمقراطيات الغربية هو الهدف الذي تنشده، اليوم، البلدان المبتلاة بأنظمة مستبدّة، ومنها بلداننا العربية. أما بالنسبة للدول التي أنجزت ثورتها الديمقراطية، كأوروبا وأميركا، فواقع الحال فيها لا يقول فقط إنها تعاني من أزماتٍ على مستوى الاقتصاد والمجتمع والثقافة والهوية، بل يشي بأن الديمقراطية نفسها باتت في خطر. وعليه، فإن المهمة التي تطرح نفسها على البشرية اليوم رفض الواقع الراهن، والتصدّي له، والعمل من أجل عالم أكثر إنسانية وديمقراطية وعدالة.