قصة وطبيعة المطعوم الجديد ضد فايروس كورونا، تعيد السؤال حول فكرة السببية العلمية وحدودها، وتشجع حد الغواية، القول بأن السببية أول العلم وليست منتهاه، واكتماله (منتجه الفعال والمتطور) هو اكتشاف وتركيب وسيط هذه السببية وديناميكياتها، في سياق السيطرة عليها. فالسببية لا تعمل دون وسيط يفعّلها. صحيح أن السببية معطى اولي، ولكن وسيطها قابل للتركيب، وهو أحد المنتجات المتطورة للمجهود المعرفي المستمر.
أغلب المطاعيم التي كشفت عنها مؤخراً مراكز البحث وشركات الادوية، صممت حسب التصور الذي تطور في نهايات القرن التاسع عشر، وقوامه، أن انتصار الجسم الحي للإنسان على الفايروس الضعيف، يكسبه مناعة ضد الفيروس القوي. وحده مطعوم شركة «بيونتك» للثنائي التركي اوزليم تورسي وزوجها أوغور شاهين، يمثل نقلة معرفية، وثورة علمية، ليس للمطعوم المضاد للكورونا فقط، ولكن انتاج تصور جديد لفكرة بناء المناعة الإنسانية ضد الفيروسات، والتوصل إلى طريقة تمكن من أنتاج مطعوم، ضد أي فايروس في قادم الأيام، خلال وقت قصير.
فهذا المطعوم، تم انتاجه، بتطبيق نظرية مختلفة، ومتطورة عن نظرية المطاعيم، المعروفة من أيام لويس باستور وروبرت كوخ. فلم يعد الفايروس المضعّف هو محفز جهاز المناعة، بل شيء جديد ومختلف، لم يكن ممكناً معرفته وانتاجه والسيطرة عليه، دون توفر ادوات جديدة، تمكن من فهم ديناميكا التفاعل بين الجسم والفايروس.
تاريخياً، لم يرفض لويس باستور العلاقة السببية في نظرية الميازما بين المواد المتعفنة والمياه الآسنة والمرض. ولكنه رفض التصور الديناميكي للميازما كعنصر موجود يقوم بدور الوسيط بين المرض وأسبابه. نظرية الميازما، قدمت السبب، والنتيجة، والوسيط. وفرضت للحفاظ على اتساقها، تعريفاً خاصاً للمرض. وكشف الوسيط (العلاقة بين السبب والنتيجة) هو الجزء المتمم من المعرفة العلمية، والتي دونها تختفي الروح التنويرية للعلم.
كشوف باستور لم تنهي العلاقة السببية بين التعفن والمياه الآسنة والمرض، ولكنها كشفت وسيطاً مختلفاً (لمفهوم الميازما) لهذه العلاقة، وهي البكتيريا والفايروسات. والقيمة العلمية لهذا الوسيط، تكمن في السيطرة عليه: مكافحة وجوده، وتعزيز مناعة الجسم الإنساني ضده. فحتى يؤدي العلم وظيفته الأساسية، يجب أن يتمكن من تحديد وسيط السببية بطريقة تمكن من التحكم به. الحل بموجب نظرية الميازما، للحماية من المرض، إغلاق النوافذ وعدم تنفس الهواء الذي يمر على الأماكن الفاسدة. نظرية البكتيريا والفايروسات بالمقابل، ربطت الحل بالمطاعيم والمضادات الحيوية. والآن قُدم للعالم تعريف جديد للفايروس يسهل السيطرة عليه.
الملاحظ هنا، أن وسيط السببية، ليس معطى نهائي، بل يخضع للتطور حسب القدرات الإنسانية. فهو يتطور حسب ما هو متاح للإنسان من ادوات لتطوير قدراته لاكتشاف الطبيعة والسيطرة عليها. فالمنتج العلمي، يربط السبب بالنتيجة، بوسيط يتطور تعريفه حسب الادوات والاستطالات المتاحة للإنسان.
باستور بأدواته المتاحة حينها، انتهى باكتشاف «ديناميكا السببية» بتحديد الجراثيم والفايروسات. ولكن الآن، بالإمكان، السيطرة على جزء صغير جداً من الفيروس، وانتاج محفزات المناعة من هذا الجزء. ولم يكن ذلك ممكناً دون توفر أدوات جديدة، تساعد على انتاج مادة، محفزة لجهاز المناعة، من جزئين من الفايروس فقط. وعملية تقسيم الفايروس، وإعادة تعريفه «مجرد جزيئات»، لم تكن ممكنة لولا توفر ادوات معقدة حققت استطاله للقدرات الإنسانية.
تصور التفاعل بين جهاز المناعة، والفايروس، تطلب مخيلة خصبة، وأدوات خاصة، لفهم هذه الديناميكا المتخيلة، والسيطرة عليها. فالعلم مهمته، السيطرة على الديناميكا التي تنتج العلاقة السببية، ضمن منظور التأثير المتبادل، الذي يعكس وحدة الإنسان والمعرفة والطبيعة. وهو ما يفتح أفقاً جديداً أمام الممارسة المعرفية والنشاط العلمي.