ذاكرة الشعب الفلسطيني وعلى تعاقب الأجيال لم و لن تنسى جريمة قوى الإستعمار بقيادة رمزها بريطانيا مدعومة من فرنسا التي تم إرتكابها بحق فلسطين والشعب الفلسطيني الذي مثل ولم يزل يمثل طليعة الشعب العربي تلك الجريمة لم تزل نتائجها وتداعياتها ماثلة حتى يومنا هذا منذ عام 1917 مما يمكن أن نطلق عليها جريمة القرنين .
التخطيط للجريمة :
لم يكن لأي جريمة ترتكب على مستوى عال أن تتم دون تخطيط من حيث التوقيت والتنفيذ وبدون وجود دوافع وأهداف للمجرم .
فمن حيث التوقيت جاءت تتويجا لانتصار بريطانيا وحلفائها في الحرب العالمية الأولى مما أتاح لها فرصة سانحة لإرتكاب جريمتها دون مقاومة تذكر أو في ظل مقاومة تفتقر إلى إمتلاك سلاح رادع .
أما من حيث الدافع والأهداف فهي تتمثل في حزمة منها :
• توظيف الديانة اليهودية لتجميع اليهود في بقعة جغرافية للتخلص من وجودهم في الدول الأوربية نتيجة للصراع مع الكنيسة كما ورد في كتب تاريخية وثقت تلك الحقبة .
• إدامة ترسيخ هيمنة القوى الإستعمارية آلتي تقاسمت النفوذ في الوطن العربي فيما بينها .
• تأسيس وإنشاء قاعدة عسكرية إستعمارية تكتسب صفة الديمومة في قلب الوطن العربي يصعب تدميرها لضمان حرمان الوطن العربي من عوامل وحدته وخاصة الجغرافية منها التي تربط بين دوله الآسيوية والافريقية وفق إتفاق سايكس بيكو .
مراحل التنفيذ :
لعظم الجريمة ولطبيعة الهدف ” فلسطين قلب الوطن العربي ” عمدت القوى الإستعمارية المجرمة لتنفيذ جريمتها التي لم يشهد التاريخ مثيلا لها على مراحل تمثلت في :
أولا : الإعلان عن هدفها فلسطين عبر إطلاق وزير خارجية بريطانيا وعده وتعهده الصادر في الثاني من تشرين الثاني لعام 1917 بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وهذا ما هو متعارف عليه بوعد بلفور ذلك الوعد الذي أرسى أساس النكبة الفلسطينية .
ثانيا : إعلان بريطانيا فرضها الإنتداب على فلسطين لتتولى قواتها مهمة التنفيذ القسري عبر تسهيل هجرة اليهود من أصقاع العالم والقيام بتدريبهم وتزويدهم بالسلاح وتمكينهم من إقامة بؤر مسلحة ” مستوطنات ” كنقطة إنطلاق لشن هجماتها وإرتكاب جرائمها بحق الشعب الفلسطيني تحت مظلة وحماية بريطانية التي اتخذت على عاتقها تجريد الشعب الفلسطيني من السلاح وزج أبناءه المقاومين في السجون .
ثالثا : إنتزاع قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية بموجب القرار رقم 181 الذي أسس لقيام القاعدة الإستعمارية تحت مسمى ” إسرائيل ” .
رابعا : الإعلان عن قيام “دولة إسرائيل ” بعد إعلان بريطانيا إنهاء إنتدابها على فلسطين و إنتزاع قرار بقبول ” إسرائيل ” عضوا في الأمم المتحدة ” وتجاهل الشطر الثاني اي قبول دولة فلسطين عضوا في الأمم المتحدة ” بالرغم من إنتهاكها لقرار التقسيم الجائر الذي منحها ظلما وتعسفا 55 %من مساحة فلسطين التاريخية وأبقى نظريا 45 %بينما واقعا لم يبقى سوى 22٪ لأصحاب الارض والوطن التاريخي للشعب الفلسطيني لإقامة دولته العربية الفلسطينية المستقلة والتي لم ترى النور بسبب الدعم الأمريكي خاصة والغربي عامة للدولة المصطنعة على مدار العقود السابقة .
خامسا : طرد مئات الآلاف من ابناء ومواطني الشعب الفلسطيني خارج وطنه ليعيش حياة المنفى واللجوء خلافا لمبادئ وميثاق الأمم المتحدة ولقراراتها .
هذه المقدمة التاريخية ضرورة لإستعراض مراحل الجرائم المرتكبة بحق فلسطين أرضا وشعبا فهل هناك من جريمة أعظم من سرقة وإغتصاب وطن من اصحابه التاريخيين لصالح مجموعات لا رابط بينهم سوى الديانة اليهودية ؟
جريمة بلفور وإمتداداتها :
لم تكتف الدول الإستعمارية بدعم وتمكين العصابات الصهيونية العنصرية من تأسيس وإعلان كيانها العدواني على مساحة 78 % من مساحة فلسطين التاريخية بل مكنتها بفضل إنحيازها ودعمها السياسي والعسكري وإلاقتصادي إلى الانتقال الى مرحلة ثانية من مخططاتها الإجرامية التوسعية بإحتلال وإستعمار باقي الوطن الفلسطيني ” الضفة الغربية من نهر الاردن وقطاع غزة ” إثر عدوان حزيران عام 1967 التي شنته القوات الاستعمارية الصهيونية المدججة بأحدث أنواع السلاح والعتاد ضد مصر وسوريا والأردن حيث كان ما تبقى من أرض فلسطين في عهدة الأردن ومصر .
وبفضل الدعم الأمريكي والأوربي اللامحدود :
▪ لا زال الشعب الفلسطيني يئن تحت وطأة الإستعمار الصهيوني العنصري الذي يرى قادته المتطرفين مجرمي الحرب بان كيانهم فوق القانون الدولي و القانون الدولي الإنساني وما وجود القوانين الدولية إلا لإضفاء الشرعية على جرائمهم .
▪ الإستمرار بارتكاب كافة اشكال الاضطهاد والتعسف بحق الشعب الفلسطيني الأعزل من السلاح ” قتل خارج القانون وإعتقال ومصادرة أراض وتدمير منازل وإقتلاع الأشجار وفرض عقوبات جماعية وإعتداءات مدعومة من ميليشيات عسكرية إجرامية تسمي نفسها مستوطنين ” .
▪ تخل المجتمع الدولي عن تنفيذ الشطر الثاني من القرار رقم 181 وخاصة من قبل الدول دائمة العضوية في مجلس الامن .
▪ كما تخلت عن الإضطلاع بمسؤولياتها وإلتزاماتها وفق ميثاق ونظام الأمم المتحدة بترسيخ الأمن والسلم الدوليين وحظر جواز إحتلال أراضٍ دولة أخرى بالقوة وضمان تنفيذ القرارات الدولية الصادرة عن مؤسساتها الجمعية العامة ومجلس الأمن دون إزدواجية ودون تحيز بغض النظر عن الفصل الذي تصدر بموجبه قرارات مجلس الأمن فجميعها واجبة التنفيذ وإلا فما معنى إصدارها مما يستدعي العمل على تمكين وضمان للشعب الفلسطيني من ممارسة حقه الأساس بتقرير المصير وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس وهذا يتطلب بالضرورة ممارسة كافة أشكال ووسائل الضغوط بما فيها فرض العقوبات على دولة الإحتلال الصهيوني المارقة لإرغامها على إنهاء إحتلالها للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عدوان حزيران 1967 كمقدمة لتنفيذ باقي القرارات الدولية ذات الصلة .
صفقة ترامب الوجه الآخر لإعلان بلفور :
تعد رؤية ترامب لمستقبل المنطقة العربية ومخططه صفقة القرن التآمرية الوجه الآخر لإعلان بلفور بل قد تتفوق عليها خطورة لتداعياتها وإنعكاساتها على الوطن العربي لعوامل عديدة منها :
¤ تهدف اساسا إلى تقويض حق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس تنفيذا لميثاق الامم المتحدة وللقرارات
الدولية ذات الصلة .
¤ التعامل مع الشعب الفلسطيني من منطلق سكاني و إنساني وما يعنيه من إعتراف لسيادة سلطات الإحتلال الإسرائيلي الإستعمارية على أرض دولة فلسطين المحتلة .
¤ العمل على تمكين الحركة الصهيونية العدوانية التوسعية من الهيمنة على مفاصل القرار في الدول آلتي اعترفت او ستعترف بالكيان الصهيوني العنصري خدمة للحركة الصهيونية ومخططاتها التوسعية .
¤ تعميد الكيان الصهيوني زعيما بل شرطيا يقود ويتحكم بشؤون المنطقة العربية وما التعهد بتسهيل بناء قواعد عسكرية إلا لاتخاذها منطلقا لحروبها المستقبلية .
إذن فإن إستراتيجية نتنياهو القائمة على توظيف عهد الرئيس ترامب ليس بإنتزاع شرعية وجوده ككيان دخيل مصطنع فحسب بل بتمكينه من السيطرة على مناطق جغرافية إستراتيجية برية وبحرية بعيدة وهذا ما كان أن يتحقق دون الضغوط التي مارسها ترامب وإدارته على قيادات عربية لم تتوقف وفقا لتصريحات علنية للرئيس ترامب وفريقه وتصريحات مجرم الحرب نتنياهو .
ماذا بعد :
ما تقدم يقودنا إلى تساؤل مفاده هل فقدت قيادات عربية زمام أمرها حفاظا على حكمها مضحية بمصالح شعوبها ومكانة أقطاره من النواحي الاقتصادية والجيوسياسية ؟
وهل فقدت قدرتها على مواجهة التحديات والمؤامرات والأخطار التي تحيق بها وإن كانت غير منظورة للبعض حاليا ؟
الرسالة التي لا بد أن يدركها ترامب ونتنياهو بما يمثلونه أن مخططاتهم وإن بدا لهم النجاح إلا أن التاريخ سجل وسيسجل أن الشعوب لن تستسلم وستنتفض في وجوههم دفاعا عن أوطانهم عاجلا ام آجلا فقوة الحق تهزم حق القوة الغاشمة .
الإتحاد الأوروبي ووعد بلفور :
إذ نقدر دور الإتحاد الأوروبي بدعمه السياسي والاقتصادي للشعب الفلسطيني وللحكومة الفلسطينية ولحقه بالتحرر من نير الإحتلال والاستعمار الصهيوني وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس على حدود الرابع من حزيران لعام 1967 إلا أن له دور أكبر متاح ممكن له أن يقوم به وبفعالية متمثلا في :
— الإعتراف الفوري بالدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس على حدود محددة بالقرارات الدولية ذات الصلة.
— إلزام الكيان الصهيوني بتحديد حدود دولته وتقديمها إلى الأمم المتحدة أسوة بباقي دول العالم على الا تتجاوز الواردة في القرارات الدولية التي منحتها ظلما شرعية وجودها .
— الطلب من الحكومة البريطانية التحلي بالشجاعة الأدبية والاخلاقية بالإعتراف بمسؤوليتها عن مأساة ونكبة الشعب الفلسطيني الناجمة عن وعد بلفور وممارساتها أثناء فترة إنتدابها على فلسطين المتناقضة مع الأهداف المعلنة للانتداب بمساعدة الشعوب على الإستقلال .
— بعد فشل جهود الاتحاد الأوربي بحث الكيان الصهيوني على إنهاء الإحتلال الإسرائيلي عبر فقط المطالبة بتنفيذ القرارات الدولية التي تجمع على ان الارض الفلسطينية المحتلة منذ حزيران 67 هي اراض محتلة وفق القانون الدولي وما يعنيه بوجوب الإنسحاب منها هذا الفشل الناجم نتيجة لرفض القيادات الإسرائيلية خاصة في عهد رمز التطرف والعنصرية نتنياهو ومعسكره مناشداتها المتكررة لاحترام ميثاق الأمم المتحدة وحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير أن ينتقل الاتحاد الأوربي وكافة الدول الصديقة إلى مربع الفعل الضاغط على سلطات الاحتلال المرتبط بالتاثير على المصالح المشتركة بينهما من خلال المقاطعة وتجميد تدريجي للاتفاقيات المبرمة وتعرية الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني وإنتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان وللإتفاقيات والعهود الدولية .
الشعب الفلسطيني بعد 103 أعوام من بدء المؤامرة على وطنه ووجوده وهويته وبالرغم من أن الملايين من أبناء شعبه يعيش في المنفى كلاجئين ونازحين. .. إلا أنه مع مرور السنين يزداد إيمانا وتشبثا وإصرارا على حقه بالعودة إلى وطنه والنضال بكافة الوسائل المكفولة دوليا بقيادة م ت ف ورمزها الرئيس محمود عباس الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني حتى إقامة دولته العربية الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس بعد دحر قوات الإحتلال الإستعمارية. .. أجيال الشعب الفلسطيني المتعاقبة أكدت على إنتماءها لوطنها فلسطين …وحقها بوطنها التاريخي…. فخاب ظن الحركة الصهيونية وقادتها بأن الكبار يموتون والصغار ينسون. ..وهذا درس آن للقوى المتغطرسة أن تعيه وإلا فإنها بذلك تؤسس لتقويض الأمن والسلم الدوليين. …؟!
فهلا انتصر أنصار الحرية والعدالة وتصفية الإستعمار والمؤمنين بسمو الحق والمعادين لحق القوة للشعب الفلسطيني قولا وعملا…. ؟ ؟
من بلفور … إلى ترامب … ماذا بعد ؟ د فوزي علي السمهوري
10
المقالة السابقة