أسابيع والسودان في عين العاصفة. عاصفة محمولة على أجنحة ابتزاز أميركي – إسرائيلي رخيص، مسنود إقليمياً، ومبارك من قيادات عربية وبرضى ومباركة صامتة من جامعة الدول العربية. ضغوط تمخضت عن أكبر عملية ابتزاز سياسي في التاريخ السوداني. التطبيع مقابل رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، معادلة وضيعة في زمن البلطجة الدولية. بعد أشهر أظهرت فيها القيادات السودانية، بشقيها العسكري والمدني، كل ما لديها من سذاجة سياسية، وضحالة فكرية ورعونة، وجهل تام، سمح للوقاحة الإسرائيلية أن تلطخ تاريخاً ناصعاً من الوقوف الثابت والقوي للساسة السودانيين، ليس فقط من القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وإنما تاريخ مجيد جعل من السودان مأوى ومقاماً وقبلة للثوار الأفارقة في حروب التحرّر الوطني من الاستعمار. كانت الخرطوم ملتقى قادة التحرّر الوطني في الجنوب الأفريقي، وقصدها الأنغولي أوغستينو نيتو والزيمبابوي جوشوا انكومو والناميبي سام نجوما. فتحت لهم أبوابها، أقاموا معسكراتهم وأعدّوا كوادرهم السياسية والمسلحة، نصرة لهم في معاركهم المناهضة للنظام العنصري. في الخرطوم، حلم الكونغولي، باتريس لوممبا، بالعبور إلى برّ الأمان، قبل أن تغتاله يد الخيانة في الكونغو. لم يكن عربياً ولا فلسطينياً ولكنه كان قائداً أفريقياً تحرّرياً. أعلن منها (الثوري) الزيمبابوي روبرت موغابي موجة جديدة للثورة التحرّرية التي أطاحت حكام روديسيا. هنا كان الزامبي كينيث كاوندا وكان التنزاني جوليوس نيريري، وكان أسود جنوب أفريقيا رفاق نلسون مانديلا، وهنا كانت مريام ماكيبا تغني للثورة ضد نظام الفصل العنصري من السودان، ولم يكن أي منهم فلسطينياً ولا عربياً. هنا كان ثوار أريتريا، بمختلف تنظيماتهم، يجدون الملاذ، ويعدّون لانتزاع حقهم المشروع في وطنهم. ومن الخرطوم، كان تشي جيفارا يشقّ طريقه إلى مرافقة الثوار في حوض الكونغو، وعلى مرأى ومشهد من كل مخابرات العالم.
لم يكن حكام السودان ممن يمكن وضعهم في خانة التوصيف الاستخباري، ووصمهم بأنهم راديكاليون يساريون أو ثوريون، كانوا فقط سودانيين يعون تماماً موقعهم في خضم الحرب التحرّرية في القارة الأفريقية، فوقفوا مساندين داعمين لها. لم تكن الهوية العربية أو الأفريقانية شرطاً لإعلان النصرة والوقوف السوداني الصلب مع قضايا الشعوب الأفريقية. لم يكن للنضال والوقوف مع الثوار مشروطاً بدفع مقابل من أي نوع. وحينما نظم الشاعر تاج السر الحسن أنشودته الرائعة “آسيا وأفريقيا” دعماً لنضالات الشعوب في القارّتين، وكل قوى التحرّر في العالم، لم يخطر على باله أن يوماً سيأتي، ويكون على قمة الحكم في السودان من يجهل هذا التاريخ الناصع أو يزدريه، ويبيع السودان ومواقفه على قارعة الطريق وبهوان لا يصدّق. لا مجال لطمس حقائق التاريخ وارتباط السودان التاريخي والثابت بنصرة قضايا التحرر الوطني، ووقوفه المشرّف على الجانب الصحيح من التاريخ مع الشعوب وحركات التحرر الوطني، سيما حركة التحرر الوطني الفلسطيني.
من يتأمل تفاصيل الموقف الرسمي السوداني من التطبيع تدهشه حالة السرّية الشديدة، المعبرة عن الخيانة والمهانة التي تعاملت بها الحكومة بشقيها، العسكري والمدني. لقد جرى التعتيم وإبرام صفقةٍ لا يعلم الشعب ما باعوا من حقوقه وما قبضوا. وهذا نهج يبدو متعمّداً وسمة طبعت المنعطفات الحاسمة في مسار ثورة ديسمبر. هكذا بدأ الأمر عندما قطع العسكريون الإنترنت، وكل وسائل الاتصال، فارضين تعتيماً شاملاً عقب المجزرة أمام مقر القيادة العامة في الخرطوم في يونيو/ حزيران 2019، وهكذا كان الحال عند صياغة وتمرير الوثيقة الدستورية، وهكذا الحال مع تمرير اتفاق جوبا الشائه الخطير.
ولتمرير مهانة التطبيع، جرى رسمياً ترويج مقولات ممعنة في السذاجة وخاطئة، أهمها: لا وجود لموقف تاريخي يحول بين السودان وإقامة علاقات مع إسرائيل. سلاح المقاطعة أدخل السودان في عزلةٍ دوليةٍ استمرت 27 عاماً، يجب الخروج منها عبر تطبيع العلاقة مع إسرائيل. الفلسطينيون أنفسهم أقاموا علاقات مع إسرائيل، وطبعت دول عربية وإسلامية. استفادة السودان من التكنولوجيا الإسرائيلية، الزراعية خصوصاً. ولترويج هذا السقوط المريع، سخرت أقلام كتاب وصحافيين أمعنوا في نشر خرافاتٍ وسذاجة مؤسفة.
على أن الواقع يقول إن الأزمة ليست في التطبيع مع إسرائيل، أو في من يقوده عسكرياً أو مدنياً، وإنما هي أزمة إدراك لطبيعة الثورة التي أطاحت نظام عمر البشير، فالتطبيع، أخلاقياً ومبتدأ، يجافي الثورة وشعاراتها في الحرية والسلام والعدالة. الخطوة في نهايتها هروبٌ مذلٌّ وسخيفٌ، ومحاولة التغطية على أزمات السودان الداخلية بوهم الدعم الخارجي السحري لحل أزماته الاقتصادية والسياسية. وبوضوح أكثر، الأزمة في هيمنة الجيش والقوى الأمنية على مفاتيح الاقتصاد السوداني، وهي من تشيع الفوضى في الدولة بكاملها، وهي من تحرم السودانيين من وضع يدهم على مفاتيح الحل الاقتصادي. وقد قالها رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، إن الجيش والقوى الأمنية يسيطران على 80% من مالية الدولة، ما يعني أن أزمة السودان داخلية، وما عدا ذلك هراء.
ولهذا، التطبيع السوداني هو انحياز لقوى عربية وإسلامية تريد فرض الاحتلال واقعاً على الشعب الفلسطيني، لكنه لن يضير النضال التحرّري لهذا الشعب، ولن يمنع وقوف القوى السودانية المناصرة تاريخياً لعدالة الحق الفلسطيني. وحتماً سوف تتجاوز الثورة في السودان محاولات اختطافها وإعادة السودان إلى مكانه الطبيعي طليعة تحرّرية مناصرة لقضايا الشعوب العادلة.