فجأةً، وعلى غير توقع أو انتظار، قرّر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن يدلي بتصريحات حول أزمة سد النهضة، اتهم فيها إثيوبيا بالتعنت في معالجة هذه الأزمة، وحمّلها المسؤولية كاملة عن انهيار المفاوضات التي كانت قد جرت في واشنطن تحت رعايته، بمشاركة البنك الدولي. وقيل إنها وصلت بالفعل إلى اتفاقية إطار كانت كفيلةً بتسوية النزاع، لولا تراجع إثيوبيا في اللحظة الأخيرة، وتهرّبها من التوقيع على هذه الاتفاقية. المثير هنا أن ترامب لم يكتف في تصريحاته هذه بإلقاء اللوم على إثيوبيا، أو بإعادة تذكيرها بأنه قطع المساعدات الأميركية عنها، أو بتحذيرها من مغبّة التمادي في مواقفها التي تتسم بالمماطلة المتعمدة، لكنه تطوّع باستنتاج أن مصر لن تتحمّل استمرار هذه المواقف غير المسؤولة طويلا، ومن ثم فقد تلجأ إلى تفجير السد. .. صحيحٌ أن ترامب اختتم تصريحاته بحثّ الأطراف المعنية على التوصل إلى تسوية سلمية، ومناشدا رئيس الوزراء السوداني بالعمل على تليين الموقف الإثيوبي، إلا أن ما أثاره عن احتمال إقدام مصر على تفجير السد أحدث دويّا هائلا، راح صداه يتردّد ليس فقط في أرجاء المنطقة، أو حتى القارة السوداء، وإنما أيضا في معظم أنحاء العالم.
ليس من السهل استنباط حقيقة الدوافع التي حدت بترامب للإدلاء بهذه التصريحات المثيرة للجدل، خصوصا أنها جاءت قبل أيام من انتخابات الرئاسة الأميركية، وقيلت بلا مناسبة تستدعي الإدلاء بها. ومع ذلك فإن التعليقات الصحافية التي حاولت استجلاء ماهية هذه الدوافع توحي بأن النخب العربية تبدو منقسمةً حول هذا الموضوع إلى فريقين:
الأول: يربط تصريحات ترامب بنظرية المؤامرة، ويرى أنها تظهر غير ما تبطن، ففي الظاهر تبدو وكأنها تهدف إلى مساندة الموقف المصري، وتخويف الجانب الإثيوبي وممارسة ضغوط لحمله على تقديم التنازلات اللازمة للتوصل إلى اتفاقيةٍ تفضي إلى تسوية نهائية للأزمة، وتؤدي إلى التوصل إلى حل منصف لكل الأطراف. أما في الباطن، فيعتقد هذا الفريق أن تصريحات ترامب تنطوي ضمنا على أغراضٍ خبيثة، تستهدف استدراج مصر للدخول في صراع عسكري طويل المدى مع إثيوبيا، ضمن خطة أميركية إسرائيلية مشتركة، تعمل على تفتيت المنطقة، خصوصا الدول العربية التي لديها سلطة مركزية قوية، وتحويلها إلى كيانات طائفية صغيرة متناحرة، يمكن لإسرائيل أن تتحكّم فيها، وأن تسيطر عليها بسهولة. ذلك أن أوساطا رسمية وشعبية في مصر قد تجنح إلى تفسير هذه التصريحات أنها تعني ليس فقط منح مصر ضوءا أخضر للقيام بضربة عسكرية لتدمير سد النهضة، وإنما تنطوي أيضا على تحريض سافر لمصر، ودفعها إلى القيام بهذه الضربة أو، على الأقل، للمضي في اتخاذ التدابير اللازمة لضمان نجاحها بالاعتماد على دعم الولايات المتحدة وتأييدها.
ينطلق الفريق الثاني من حسن الظن والثقة بالإدارة الأميركية الحالية، ويرى أن ترامب، وهو شخصية قوية يمكن الاعتماد عليها، وتربطه بالرئيس عبد الفتاح السيسي علاقاتُ صداقةٍ قوية وإعجاب متبادل، يبدو راغبا بالفعل في تقديم يد المساعدة لمصر ورئيسها، خصوصا أنها من الدول الحليفة للولايات المتحدة، والداعمة لسياساتها في المنطقة، بما في ذلك سياساتها الرامية إلى تمرير صفقة القرن، وتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل. وإذا كان ترامب قد اختار أن يصرّح إن مصر قد تلجأ إلى تفجير سد النهضة الإثيوبي، في حال عدم التوصل إلى تسوية عادلة مناسبة، فلأنه يدرك جيدا، ومن واقع معلوماته الاستخبارية الموثقة، أن الخيار العسكري مطروح على الطاولة المصرية ملاذا أخيرا. وأن التصريح به على لسانه هو يرفع العتب عن مصر ورئيسها، ويؤدي إلى تحقيق الغرض الرئيسي منه، وهو دفع إثيوبيا إلى التفاوض من جديد بحسن نية.
يلفت النظر هنا تباين ردود الفعل الرسمية المصرية والإثيوبية على التصريحات الترامبية غير المتوقعة، فبينما قابلتها مصر الرسمية بصمت، يبدو ممزوجا في ظاهره بالدهشة والإحساس بوقع المفاجأة، جاء رد الفعل الإثيوبي عنيفا وعصبيا في الوقت نفسه. ويبدو أن القيادة الإثيوبية وجدت في هذه التصريحات مناسبة يمكن استغلالها، وتتيح الفرصة لتحويل أنظار الداخل المنقسم على نفسه صَوْب خطر خارجي متوهَّم، فقد صدر عن مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي بيان يصف تصريحات ترامب بأنها “تهديدات وإساءات عمياء وغير مثمرة للسيادة الإثيوبية، وتشكل في الوقت نفسه انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي”، ويؤكد أن إثيوبيا “لن تخضع لاعتداءات من أيّ نوع مقابل الاعتراف بحقٍّ قرّرته معاهدات استعمارية”، وأنه “لم يوجد قط مَن استطاع العيش بسلامٍ بعد أن قام باستفزاز إثيوبيا”. وذهب رئيس الوزراء الإثيوبي السابق، هايلي مريم ديسالين، إلى وصف ترامب بأنه “متهوّر وغير مسؤول وليس لديه أدنى فكرة عما يتحدث عنه”، وذلك في تغريدة كتبها على حسابه في “تويتر”. أما وزارة الخارجية الإثيوبية فاستدعت السفير الأميركي في أديس أبابا، وطالبته بتوضيح تصريحات الرئيس ترامب، وأبلغته بأنها تصريحات “غير مقبولة بموجب القانون الدولي، وتنطوي على تحريض لمصر بشن الحرب على إثيوبيا، ولا تعكس عمق علاقة إثيوبيا بالولايات المتحدة”.
يثير الاستغراب والدهشة هنا توقيت هذه التصريحات، فلو كان ترامب قد اتخذ موقفا حاسما من إثيوبيا، عقب هروبها من جلسة التوقيع على اتفاقية الإطار التي كانت مفاوضات واشنطن قد توصلت إليها، لكان لهذا الموقف تأثير أكثر فاعليةً على مسار العملية التفاوضية، ولربما كان قد أجبر إثيوبيا على إعادة النظر في سياساتها ودفعها إلى التوقيع على الاتفاقية التي لم ترفضها في حينها صراحة، وتعللت بالحاجة إلى مزيدٍ من الوقت لدراستها. وهنا يثور سؤال، لا أعتقد أن في وسع أحد أن يتمكّن من الإجابة عنه: لماذا أهدر ترامب فرصة كانت سانحة من قبل للضغط على إثيوبيا في أثناء مشاركتها في مفاوضاتٍ تجري تحت رعايته شخصيا في واشنطن، ثم عاد بعد شهرين، بلا مناسبة، وبعد حديث تليفوني مع رئيس وزراء السودان، عبدالله حمدوك، يتعلق بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وليس بسد النهضة، ليدلي بتصريحات توحي، في ظاهرها، بأنها تهدف إلى ممارسة الضغط على إثيوبيا، لدفعها إلى العودة لطاولة المفاوضات؟
لننحِّ الآن جانبا قضية البحث في حقيقة الدوافع المحرّكة لتصريحات ترامب، ولنحاول توجيه أنظارنا إلى البحث عن تأثيراتها المحتملة على أرض الواقع، في ظل معضلة كبرى لا يبدو أن بعضهم يدرك حقيقة أبعادها كاملة، فمعروفٌ أن مصر تعتمد على نهر النيل في توفير حوالي 97% من احتياجاتها من المياه المطلوبة للري والشرب والاستخدامات الأخرى. ومعروف أيضا أن حصتها الحالية من مياه نهر النيل، والتي تبلغ حوالي 55 مليار متر مكعب، لا تفي باحتياجاتها الفعلية، بسبب التزايد المستمر في عدد السكان. ومن ثم، بدأت مصر تدخل تحت خط الفقر المائي بالفعل، ولأن بناء السد الإثيوبي سيؤدّي حتما في حالة عدم التوصل إلى اتفاق إلى إنقاص حصتها الحالية من المياه. فمن الطبيعي أن ترى في التعنت الإثيوبي لضمان هذه الحصة حدًّا أدنى تهديدًا وجوديًّا، ينبغي العمل على مواجهته بكل السبل المتاحة. ومن الطبيعي أيضا أن تزيد من سقوف المخاوف المصرية تصريحات رسمية إثيوبية تقول إن نهر النيل “تحوّل بوجود سد النهضة إلى بحيرة داخلية”. صحيحٌ أن إثيوبيا لا تكفّ عن تأكيد حرصها على “عدم الإضرار بمصر”، وفقا لما هو منصوص عليه في إعلان 2015، لكنها ما تزال، على الرغم من ذلك، تراوغ وترفض تحويل هذه النيات الطيبة المعلنة إلى التزام قانوني، تؤطّره معاهدة دولية، تنظم ملء السد وتشغيله، وتتضمن آلياتٍ ملزمةً لتسوية المنازعات. لذا يتوقع أن تتعامل إثيوبيا مع تصريحات ترامب من خلال بديلين لا ثالث لهما: استمرار المماطلة وكسب الوقت، والتسويف إلى ما بعد انتخابات الرئاسة الأميركية، لعل هذه الانتخابات تسفر عن فوز جو بايدن الذي سوف تحتاج إدارته بالضرورة إلى بعض الوقت، تكون إثيوبيا خلاله قد انتهت من الملء الثاني للسد ووضع مصر أمام أمر واقع يستحيل تغييره. مراجعة إثيوبيا موقفها، وإعادة حساباتها على أساس أن تصريحات ترامب قد تكون مبنيةً بالفعل على معلومات مؤكّدة أن مصر تخطط فعلا لضربة عسكرية تستهدف تدمير السد، وأن هذه الضربة قادمة لا محالة، ومن ثم تقبل بتقديم الحد الأدنى من التنازلات الضرورية للتوصل إلى تسوية مقبولة لجميع الأطراف.
ليس واضحا بعد ما إذا كان قبول إثيوبيا أخيرا إجراء جولة جديدة من مباحثاتٍ مطولة، تجري في الخرطوم تحت رعاية الاتحاد الأفريقي لبحث مسودة اتفاقٍ أعدّه السودان، ولا ما إذا كان للتقارب الحالي بين موقفي مصر والسودان من مفاوضات سد النهضة علاقة بتصريحات ترامب. ولكن ليس من المستبعد أبدا أن تكون هذه التصريحات قد حرّكت بالفعل مياه المفاوضات الراكدة، فحتى في حالة خسارة ترامب انتخابات الرئاسة فسيظل هو سيد البيت الأبيض حتى يوم 20 يناير/ كانون الثاني المقبل. وفي تقديري أنه بات من المرجّح أن تحسم أزمة السد، سلما أو حربا، قبل هذا التاريخ. ونأمل بالطبع أن يكون الحسم بالوسائل السلمية.