فكرة التنوير كونية بامتياز، وإن كانت تجلياتها وتحققها مرهون بالبيئة التي تنبت فيها. فمن مقارنة بسيطة وسريعة بين تصور «ابن رشد» (الحفيد) وعبارته الشهيرة: «لا يمكن أن يمنحنا الله العقل، ثم يطلب منا أن لا نستخدمه»، وتصور «إيمانويل كانت» للتنوير من أنه «الجرأة على الرشد». هما موقف واحد (ولكن بتفاصيل مختلفة) للتحرر من الكهنوت، وتحرير الإنسان من الاستسلام لفكرة أنه (غير راشد)، ويحتاج لمن يرشده.
من جهة اخرى، فإن تجليات الفكرة التنويرية، لها علاقة باستجابة المجتمعات لها. ففي حين حوصر ابن رشد وحرقت كتبه، وحاربته أوروبا وفرضت القتل عقوبة (للرشدية)، ومرت المغامرة التنويرية في اوروبا العصور الوسطى بمصاعب لا تقل هولا عن معاناة التنويرين العرب والمسلمين. ولكن انتصرت فكرة التنوير في أوروبا، قبل تحوله إلى مشروع كوني مستمر، يسند ويبرر تصور اوروبا لمركزيتها. ويستنتج الباحث «جيمس شميدت» من تتبعه، على مدى أكثر من قرن، تطور تعبير «التنوير» في معجم اكسفورد، والحوار الذي رافق هذا التطور، حتى اكتسب مضمونه الحالي: «أن التنوير ليس مجرد مرحلة تاريخية، بل مسيرة مستمرة ودائمة وكونية».
ما يمكن استخلاصه من بعض التجارب، (وبمخاطرة معرفية صغيرة)، هو أن مشروع التنوير في أي مجتمع، مرتبط بتوفير فكرة كونية عن الحياة والمعرفة. قائمة على الاعتراف بكمال الإنسان، وأنه هدف الفكرة، وليس أداتها. فالكهانة (التعامل مع الإنسان كأداة) كانت مرحلة من مراحل تطور الفكر الإنساني. ونجحت الفكرة (الدعوة) الإسلامية بتحرير الإنسان من الكهنوت، حيث تحول مجتمع مفكك إلى مركز حضاري عالمي. ليس من خلال رفض الكهانة فقط، ولكن بتأسيس بديل فعال وممكن لتجاوزها. وقبلها كانت روما التي أسست للقواعد الديمقراطية، ولفكرة الانتخاب، ثم بعد القرن السابع عشر، أوروبا التي تحررت من أرثها الكهنوتي، استناداً إلى فكرة إنسانية كونية، منحتها قوة داخلية تبرر مركزيتها العالمية.
ويمكن أيضاً أن نربط بين عصر الانحطاط العربي الإسلامي، باستعادة الكهانة لدورها، وقدرتها على خنق فكرة التنوير، وتحويل الإنسان من قيمة مستقلة، وأن ارتقائه الهدف السامي للفكرة، إلى مجرد أداة، أو وسيط. فالآلة البخارية، كانت موجودة، ولكن كلعبة للتسلية، وليس اداة انتاج وتحرير للإنسان.
الحقيقة التاريخية الأخرى، التي تعزز مقولة تلازم كونية التنوير ومحليته، وأنهما تجليان لذات الحقيقة. هي أن المجتمعات اكتسبت قوتها وتماسكها، وامتلكت الفرصة للتأثير العالمي، بتبنيها لمشروع مركزية الانسان، كشرط للتخلص من كافة أشكال ابتذاله فكرياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً. فبعد تحرير الإنسان محلياً، يبدأ الحديث عن التجليات العالمية لقوة أي مجتمع. فالنظرية السياسية تؤكد أن أي قوة تنشأ، أياً كان متكأها، يصبح فضائها عالمي وغير محدود. فلا تكتفي القوة، بحدود لتأثيرها.
ولكن لنتذكر بأن الهدف تحرير الإنسان من قيوده محلياً، وليس تأسيس قوة كونية. وهذا شرط حتى يتحول المجتمع بمحليته إلى حقيقة إنسانية كونية، بعدها تتحقق القوة. ولكن الكهنوت، بكافة أشكاله بما فيها كهنوت التحديث والعصرنة، لا يمكن أن يؤسس القوة، مهما كان خطابه او الوعد الذي يحمله لتبرير ابتذال الإنسان.
وهذا ما يمكن استخلاصه من مقدمة ابن خلدون، وإن كان جل التركيز على وصفه لديناميكيات التشكل السياسي الداخلي. فما يتم القفز عنه وتجاهله، هو أن العصبة تتآكل، ليس بفعل قوى خارجية، ولكن بفاعلية العجز عن تطوير مشروع التنوير، واستكمال تحرير الإنسان، والاعتراف بمركزيته. فعندما تضعف العصبة وتبدأ بالتحلل، تتخلى عن الوعد، وتبدأ بابتذال الإنسان، وتتحالف مع الكهنوت، فتزداد ضعفاً، وتصبح بكل ما لديها، مطمع لقوة خارجية صاعدة.