عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
رغم أنه يحمل على كاهله ثمانية وثمانين عاماً إلّا أنه ما زال ومنذ الثامنة من عمره يكابد ما سببه اللورد بلفور باسم الحكومة الانجليزية لشعبه من آلام ومعاناة فقدان الوطن..
منيب المصري يقارع الآن “وعد بلفور” ليمسك بالحكومة التي أنجزته متلبسة بجرائمها التي ورثتها الحكومات البريطانية الآن وإلى يوم الدين..
يؤمن منيب المصري أنه “لا يضيع حق وراءه مطالب”، ولذا ينهض الآن ليقيم قضايا في المحاكم الدولية ضد الحكومة البريطانية بسبب “الوعد” وهو يعقد الخميس القادم لقاء رام الله الشهير الذي يعرض فيه للدعوى التي سيقيمها، وقد سخّر لها أبرز المحامين العالميين من الفلسطينيين وغيرهم ممن يرون الحق ويدعون لأتباعه وهي الاولى من نوعها واهميتها ..
وأبو ربيح الذي يستند إلى تأييد واسع من الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، ابتداء من الرئيس محمود عباس وانتهاء بأصغر طفل فلسطيني في مخيمات الشتات، يرى أن ملاحقة “وعد بلفور” وما جرّه على الشعب الفلسطيني من ويلات وضرورة تصفية آثاره ما استطاع ، وإجبار بريطانيا على الاعتذار ودفع كلفة ما سببه الوعد من مآسي..
الرجل يمتلك عزيمة شابة قوية ومثابرة، ويتحدث عن القضية وكأنه يكسبها تماما، فهو يدرك أنه إذا توافرت الإرادة فلن تعدم الوسيلة، خاصة وهو يدرك ويريد لكل المثقفين والوطنيين الفلسطينيين على مختلف مشاربهم ومستوياتهم أن يدركوا معه أن شعبنا قد غبن وظلم واقتلع وبدد وضرب، وأن الحركة الصهيونية وتحالفها الغربي قد سبب وما زال يسبب النكبات المستمرة ويسدد الضربات المتصلة والمؤامرات المحبوكة ليستمر الوعد نافذا حتى تصفية القضية الفلسطينية تماما، وانكار حق شعبها في العودة التي هي هم بنود الصراع مع المحتل، ويذكر أبو ربيح بأنه عشية النكبة كان المستوطنون ومن يناصرهم لا يزيدون عن سبعين ألفا في حين كان الفلسطينيون يتجاوزون الـ (800) الف.
“وعد بلفور” ومضمونه الذي يحرم الشعب الفلسطيني من حقوقه السياسية ويحوله إلى طائفة أو طوائف ليس لها إلا حقوقا دينية فقط، ويجرد شعبنا من حقوقه السياسية والوطنية الثابتة، هذا الوعد بالمقابل يعطي لكل يهود العالم امكانية العودة إلى أرض فلسطين والاستيطان فيها والإقامة عليها والتصرف بها، ويجعل من خلال ما لحقه من قوانين واجراءات ما زالت تتوالى وقد لا يكون آخرها “قانون القومية الاسرائيلي” وهو الذي يؤكد على أن فلسطين من النهر إلى البحر هي وطن اليهود، وهي لكل يهودي يرغب في المجيء إليها، وهو نفس القانون الذي ينفي حق الفلسطينيين في وطنهم ويجعلهم مجرد جالية برسم الاقتلاع، لتكون فلسطين وطنا لليهود وليس لكل من يقيم على أرضها، ومن هنا يأتي الرفض الاسرائيلي المتواصل لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على التراب الوطني الفلسطيني المحتل عام 1967 بما في ذلك عاصمتها القدس الشرقية، لأن من شأن إقامة دولة للفلسطينيين نسف ما جاء في “وعد بلفور” وابطال صيغته التي لا تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني ومن هنا يأتي العمل الاسرائيلي لتكون قيادة الشعب الفلسطيني ليست منه بل وكيله عليه وان لا يكون قراره مستقلا ..
لقد حذر الرئيس أبو مازن مبكرا وفي كل كتاباته من خطورة هذا الوعد الذي ما زالت أثاره تسري، وهو أخطر جريمة اتخذت ضد الشعب الفلسطيني، وقد انتج النكبة في تجليات تطبيقه.. وقد كشف الرئيس أبو مازن بوضوح دور الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت في اسناد “وعد بلفور” وتمكين المستعمرين الانجليز الذين فرضوا انتدابهم على فلسطين عام 1921 لانقاذه فقد ضغطت الحركة الصهيونية على الرئيس الاميريكي وودرو ويلسون لجر الولايات المتحدة لدخول الحرب العالمية الاولى الى جانب الحلفاء ضد المانيا لتحقيق اهدافها ..
لقد استمعت لكلمة الرئيس محمود عباس في افتتاح آخر مجلس وطني فلسطيني، وهو يؤكد دور الامبريالية الاميركية التي لا يتطرق كثير من المؤرخين لدورها مقتصرين ذلك على الامبريالية البريطانية التي هي أسّ الدواء.
لا يجوز لطموح المثقفين الفلسطينيين أن يتوقف عند حدود وهم يطالبون بحق شعبهم في العودة وتقرير المصير، فالعالم مفتوح أمام كل جهد وتضحية وعمل، والمعرفة متاحة الآن أكثر من أي وقت مضى لينخرط المطالبون بحقوق شعبنا في رفع القضايا والمطالبة بإدانة بريطانيا، ليس بالكتابة واللغة وإنما بكسب القضايا ضدها وتكبيدها الخسائر وما ترتب على شعبنا جراء إقامة الوعد من ويلات ومآسي ونكبات..
لقد كتب السيد منيب المصري عن هذه المسالة ( مسألة رفع قضية ضد الحكومة البريطانية) بالتفصل في مقال نشرته في موقع عروبة الإخباري وهو منذ مدة طويلة، يبلور فكرة إقامة دعوى ومطاردة بلفور وأهله، ومن أخذوا بفكرته وطبقوها وتحديدا الحكومة البريطانية، فقد عانى المصري شخصيا كما عانى شعبه إذ أنه ما زال يقيم في بيته في اعلى جبل جرزيم في نابلس بفلسطين ويعي المضايقات الاحتلالية الاسرائيلية وقد اخبرني أنه في كل مناسبة يستفزه المستوطنون وقادتهم بالقول له على الحواجز ” متى تموت لنأخذ بيتك” وهي الطريق التي يمارسونها بأشكال مختلفة ، بالاغتصاب او انتظار الفرص، وقد تحدث عن ذلك بنغوريون اول رئيس وزراء اسرائيلي في لحظة مكاشفة حين قال حين نشر من اوراق مؤخراً :” جماعتي أكبر لصوص … لقد أخذوا البيوت العربية من أصحابها عنوة “، وها هو منيب المصري اليوم يجسد الفكرة ويكسبها إدارة التنفيذ ويجند من أجلها كل الامكانيات لرفع الدعاوى، ويحشد لها كل مستلزمات الكسب وأولها الارادة التي لا يجوز ان تهن أو تضعف أو تتوقف، فهذا الصراع مستمر منذ مائة وثلاث سنوات، أي منذ “وعد بلفور” الذي جاء ثمرة للتآمر الصهيوني الامبريالي الغربي على فلسطين وشعبها وعلى الأمة العربية ومستقبلها واستقرار شعوبها..
واذا كانت انظمة عربية لم تستوعب المخاطر المترتبة على الوعد، ولم تعِ حجم المؤامرة بل أن البعض بعلم أو بجهل ينخرط في التطبيع والمهادنة بل والتحالف مع أركان الصهيونية، وهو بذلك يؤكد على وعد بلفور.. اذا كانت بعض الانظمة العربية قد تورطت في ذلك خدمة لمصالح حكامها أو تسديدا لبقائها، فإن شعبنا المناضل منذ أكثر من قرن وربع لم يتوقف ولن يضيره كل أشكال الخذلان والسقوط، بل سيمضي مع أحرار الأمة وقادتها النظيفين الوطنيين على مختلف مستوياتهم ومواقعهم لمواصلة مواجهة الغزوة الصهيونية ورافعتها “وعد بلفور”..
واذا كان قد جاء من يرفع الركام ويبعث الحياة مجدداً لمواجهة بلفور ووعده وتراثه حتى وإن متأخراً، فإن هذا الجهد ليس جهد رجل واحد ولا ينبغي أن يكون، بل أنه جهد شعب كامل عانى الظلم والاقتلاع والتبديد ، وهو جهد لا بد أن يصب فيه جهد أحرار العالم وشعوبه المؤمنة بحق الشعب الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير..
لا يضيع حق وراءه مطالبه ومرور قرن كامل على “وعد بلفور” لا يجعله مسوغا ولا يكفل له الشرعية، وإذا كانت اسرائيل قد كسبت قضاياها بالقوة والسلاح وحتى بالقرارات مثل قرار بلفور وقرار الانتداب البريطاني وغيره، فإن كل تلك القرارات يمكن ابطالها بالعمل الذي يتوجه الكفاح، فقرارات الشرعية الدولية العديدة التي انتصرت لفلسطين وشعبها سواء من مجلس الأمن أو الجمعية العامة أو مختلف المحافل الدولية، فإنها مركونة بانتظار من يعرب قرارتها بكل الوسائل بما في ذلك المقاومة، ونحن نتذكر قرار مجلس الأمن (420) المتعلق باحتلال جنوب لبنان والذي بقي معلقا (25) سنة إلى أن جاءت المقاومة لتنفذه وتصفي الاثار التي تحدث عنها القرار..
نعم البداية من “وعد بلفور” ومن إدانة من اقامه وتحميله كامل المسؤولية، ثم تدريب شعبنا الذي ظل يؤمن بالسلام على كيفية التعاطي مع قرارات الشرعية الدولية، ليس بحفظها أو ذكرها في المناهج المدرسية وانما بالعمل على انفاذها، فالعالم لن يقاتل بديلا عن الفلسطينيين ولكنه يستطيع اسناد قراراتهم ان عملوا وتوفر الدعم السياسي لها كما كان كفاح شعب جنوب افريقيا بعد (300) سنة من الاستيطان الابيض..
يطلق منيب المصري صافرة سباق المسافات الطويلة للوصول الى إدانة “وعد بلفور” على مسافة 103 سنوات، وادانته والصاق الجريمة بمن فعلها بعد ان ظل طوال تلك العقود يهرب ويماطل وينكر ويستقوي.
لنتعلم من عدونا الذي يطالب بموروث يهود خيبر رغم أن أولئك يهود عرب لا علاقة للصهيونية ومن تحميهم في فلسطين من محتلين بها وبالمطالبة بإدانة موقف الرسول (ص) منهم وايضا مطالبة الانظمة العربية المعاصرة الغافلة لتعويضات لليهود الذين كانوا هاجروا الى اسرائيل تصل المليارات ولا تغطيها كل اموال النفط العربية اليس هذا درس لا بد من الاعتبار به؟..
انهم يستعملون كل أنواع السلاح من قوانين ومستندات مزورة ومن أساليب ملتوية ومن ادعاء حقوق لهم، سواء لليهود الذين رحلتهم الحركة الصهيونية من البلاد العربية إلى اسرائيل المصنوعة لتأثيثها بهم بعد النكبة، أو بغير ذلك في حين نصمت عن ما يمكن أن نهدمه ممن ادعته الحركة الصهيونية والاستعمار الغربي أو بناه ليوقع علينا النكبة..
الصراع طويل ومنوع ويستخدم وسائل عديدة، فلماذا نحرم انفسنا من اسلحة هامة عديدة مبيته يمكننا استعمالها والكسب بها والانتصار في معاركها كما يفعل منيب المصري الذي ألقى حجراً في بركة راكدة ومستنقع مضى على وجوده (103) سنة هو اصل البلاء.. نعم لتتكاثر الحجارة التي نرميها على من أقاموا المستنقع لنحركه، ونمكن العالم من مساعدتنا لتصفية اثارة أو وقفها على الأقل والتحذير من استمرارها..
إن كل ذلك ممكن فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة بدأها منيب المصري برفع الدعوى وعلينا جميعا أن نبدأ هذه الرحلة وسنصل إن أحسنا العمل الى النصر!!
توماس وودرو ويلسون الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة من عام 1913 إلى 1921.