«الصعلوك» ظاهرة كونية، وليست عربية، وكل الثقافات احتفت بصعاليكها النبلاء، فهم الباحثون عن فرصة للعيش بلا تغريب، حيث تتطابق مشاعر الإنسان وقيمه مع عيشه اليومي، فلا يعود العيش مصدراً للقلق من امتهان الذات. كذلك التنوير، هو ظاهرة إنسانية كونية، هدفها، إعادة ترميم الجسور بين الجماعة والفرد، عبر فرص التصحيح المستمرة.
التنوير ضرورة لإدارة عدم تطابق القيم الفردية النبيلة، مع ضرورات الواقع المعاش. وهو معادلة للعيش، تحدد هوامش خروج الفرد على الجماعة، وحدود سلطة الجماعة على الفرد. وهو بديل لخيار الصعلكة، حيث يصبح استمرار الفرد مع الجماعة يتناقض مع ما يريده لنفسه. ولكن في حين الصعلكة تتطلب بطولة مواجهة مخاطر الغربة والعزلة، فإن التنوير يحتاج إلى شجاعة الحكمة لتأسيس «الخيال الموضوعي»، وامتطائه لاستنفاد حدود الممكن.
فالتنوير شرعية متجددة لإعادة تشكيل الواقع، بموجب قواعد «الموضوعية»، التي تصوغ معاير «أناقة» الحاضر، وتصون جمالية تلبية الضرورات، وترقى بها للتعبير عن القيم العليا المشتركة. ولكنه ليس خياراً سرياً للأفراد ليرمموا من خلاله جراح الإقصاء والتهميش، ويتعالوا، على واقعهم المعاش. فالتنوير، موقف فكري وأخلاقي، ينفي ضرورة الصعلكة والرحيل خارج الحيز المكاني للجماعة. ويقدم هامش التفاعل مع الواقع، لتشكيله بمنظومة جمالية موضوعية، تعيد ربط الضرورات بالقيم العليا للجماعة وللأفراد، بديلاً للرحيل.
قسرية العيش، التي تسحق الفرد، وتبتذله، تطلبت الصعلوك النبيل الذي «صفيحة وجهه كضوء شهاب» على حد تعبير عروة بن الورد. فالصعلكة خياراً بطولياً ضد التغريب، يحمي الذات من رذيلتين: الضعف الذي يحيل الفرد إلى ضحية حتى «يضحي طليحاً كالبعير المُحَسّرِ». والتواطؤ مع الواقع، والعيش بتغريب عن القيم التي يؤمن بها الفرد، فتجعله شريكاً في الممارسة الخاطئة التي تستجلب اللوم، وعدم الرضا عن الذات. فكان خيار الصعلوك المصلح، «…اطوَّف في البلاد لعلني…أخلِّيك أو اغنيك عن سوء محضر».
ولكن التقدم، تطلب التنوير، حيث أصبح الفرد والجماعة ديناميكا تشكيل متبادل ومستمر، تم التعبير عنها بنوع جديد من البطولة، قدمت الحركة الرومانسية أحد نماذجه. فالفرد يتشكل من خلال تفاعله مع الجماعة، وليس بخضوعه المطلق لها، كما أن الجماعة ترتقي وتتطور وتزدهر عبر المجهود الفردي، الذي يسعى لتطوير تفاصيل العيش المشترك.
قبل أن يصبح التنوير عملاً شرعياً ومقبولاً لتصحيح الأخطاء، واستكمال النواقص، لضمان العيش دون تغريب. كانت منظومة «الرقابة والمعاقبة» تطال «جُوّانية» الإنسان، لضمان تطهره من الخطيئة الدائمة، فظهرت «الصعلكة» كخيار بطولي وحيد، لمواجهة منظومات «العيش القسري» المادية والقيمية.
ومع نشوء «المدن المفتوحة» بعد الثورة الصناعية، فقدت القرية مركزيتها وقسريتها، واحتكار فضاءات العيش. فلم يعد ترك الفضاء القسري يتطلب بطولة وإيمان صوفي بوعد الشنفرى: «ما بالأرض ضيق على أمرء». فالفضاء المدني، سهل ومتاح ومتنوع، وبه وفرة تتحدى المنظور القسري للعيش به. فالمدينة الحديثة تشكل فضاءاً لغواية جمالية، وجاذبية للتعايش، بهامش يحترم الفردية. ولكنها لم تنهِ التوتر بين الفرد والجماعة، وإن قدمت فرصة مختلفة نوعياً لإدارة هذا التوتر. فالقرية والعشيرة أنتجت الصعاليك، والمدن تنتج المستنيرين. فالتنوير هو الذي يسمح باستبدال بطولة الصعلكة، بالعمل على تطوير الواقع من خلال العيش به، وبالتفاعل معه.
بعد تحرير الإنسان من خطيئته عبر مرحلة الانوار، جاء التنوير، لبناء الجسور بين الإنسان الفرد بكل مكوناته وممكناته، مع الجماعة. فحين يحصل التباين بين القيم المشتركة وقيم الفرد، ليس أمام الفرد إلا التصحيح. وبدلاً من الصعلكة: (التغريب عن الجماعة، لتجنب التغريب عن الذات)، جاء التنوير كمنهج وخيار واضح لضمان التفاعل الحيوي بين الفرد والجماعة لتطويرهما معاً.