عروبة الإخباري – بمقاربة سريعة لمجموعة المرحوم الشاعر فتحي الكواملة (الرحيل إلى المنفى الغائم) الحظ أنني في حضرة ذلك الإنسان الثائر العاشق، الذي تدميه جراحات فلسطين، البيت الأول ومهد الصبا، ويدميه أكثر تخاذل القريب وتجهم البعيد، رياح حارقة سوداء يطلقها حوله، أمامه وخلفه، الأصدقاء والأعداء، وهو بعهد الصمود والمقاومة معتصم، وعلى أمل العودة مقيم، يقابل حال العروبة البائس بهجائية ساخرة تعري خنوعهم وتطامنهم، من قصيدة (جدار الصمت) يقول:
لا … يا سادة
يا خصيان العصر المنكود
غلاة القمع
دعاة الذل
تنابلة السلطان
و سياط الجوع
تمزق أشلاء الشرفاء
………..
لن تخمد روح الكلمات
فنشيش ( الحرف )
تمرد في صدري
لهبا
طوفانا قدسيا
وفيما يشبه جلد الذات، يشير بإصبع الاتهام لذاته وللشقيق من المحيط إلى الخليج, لسان حاله يقول,: نعم لم نقدم للوطن السليب ما يليق به من فداء … والعرب بين نائم وحالم، غير انه يتشوف لطفرة تضيء يومنا المظلم من قصيدته ( النيروز والبراعم الخضراء ) يقول :
يا طفرة للصخر من يد خضيبة
تشق جوف الظلمة الرهيبة
و تسقط القناع عن وجوهنا الواهنة
الذميمة … السخيمة
من ( المحيط ) النائم
إلى الخليج الحالم …
ومن وحول الردة الأثيمة
والموت في بهارج السلطان
والكأس والحريم والغلمان
يا عقمه من جدبنا ( عدنان )
يا ذله من عارنا ( قحطان )
و هو يجار بعالي الصوت، يستنهض الأمة … لا تتركونا نجابه الموت وحدنا
بصدور عارية :
إلى متى نظل بالصدور … بالهتاف
بالحجارة
بالعري والجراح والمرارة
نغالب الطوفان والخريف
و خنجر العدو والشقيق ؟
إلى متى يا امة
تغط حتى الموت في سباتها العميق ؟
و تمر السنوات ولا جديد، وحدك .. أشلاؤك تشهد انك قاومت وحدك، ووحدك يلقيك المنفى إلى منف غائم, تلملم أشلاءك وترحل وعينك على القدس وصفد والخليل، وامة العرب إما قاتل أو شاهد على صمودك النبيل، مدينا بعض من أراد الثورة قربانا لكرسي أو سلطان، من قصيدة ( الرحيل إلى المنفى الغائم ) يقول وقد حملت السفينة ( سنتوريني ) أشلاء الصمود في بيروت :
يا غوثا يخطف أشلائي
من شدق التنين العاتي
من قلب المذبح في بيروت
ليعود بكبر الجرح
إلى منفاه المسجور الغائم
………..
إذ يُسدلُ قبل خيوط الفجر
ستار الأرباب الصفوة
من شاءوا الثورة قربانا
لتسلم كرسي السلطان
…..
و الشعب البائس مغلول
…..
ذبحوه ليمحو من ذكراه
معالم تاريخ الأرض
هو لا يكتفي بالرفض والنقد وهدير الصوت، هو يقدم حل التمكين لثورة ترفض سلم ( الاستسلام ) تحي الموات وتبعث الجذور الندية، لتنهض نبتة النار، تغادر أصيص السياسة العرجاء، يفوح شذاها في كل بوصة من الأرض.
من قصيدة ( نبتة النار ) يقول شاعرنا :
صوح الجذع
أسعفوه بعزق
كل نبت يشيخ إن لم يشذب
…..
جددوا عنصر التراب أضيفوا
نسغاً ينعش العروق
…..
شاخ بكر الفروع
مذ تاه في بلقع ( السلم )
….
نبتة النار
هل تبرعم فجرا
في أصيص السياسة العرجاء؟
…….
هل يفوح شذاها
……..
ان تلاشت أفياؤها عن حدود
وسعت كل بوصة من ربوعي …
و مع الم الاغتراب، رغم جراحات الصديق والعدو، فانه يأبى أن يقول … آه ..
من قصيدة (ثورة الجرح):
فجرحي النغّار يا ( أمُّ ) وسام
و شارة النضال للأنام
تقدمي
و لملمي من جرحي الصبيب
فلن أفوه : ( آه .. !)
و مع انشغاله في هموم قضيته ( فلسطين ) رغم وجعه وغربته، رغم عبوس القريب والبعيد، إلا أن معاناته تلك، لم تشغله عن تلمس أوجاع الإنسان وتوقه للحرية، في أي مكان في الكون، وهو يرى أن لا قيمة للشاعر وشعره إن لم يسهم في إشاعة مناخ الحرية وتضميد جراح المحرومين من قصيدة ( جدار الصمت ) يقول المرحوم الشاعر فتحي الكواملة :
لا عاشت أوزان الشعر
إن لم تسهم في توشبج
نشيد مخاض الحرية
في سفر خلاص التعساء
لا عاشت أنغام المنظوم
إذا لم تغزل أشرعة
و بيارق مجد أزلية
من اجل رخاء البشرية
ولأم جراح البؤساء …
إذا تجاوزنا القصائد الثائرة للشاعر فتحي الكواملة، المشتعلة دعوة إلى المقاومة ورفض واقع الاغتراب والضعف، إذا تجاوزناها إلى شعر الوجدانيات والعشق والغزل، آسرتنا عذوبة موسيقاه ورهافة كلماته وشفيف مشاعره، أي شاعر هذا الذي يبهرنا
في الحالين..
من قصيدة (سمراء) يقول :
سمراء
يا لحن الصباح
و وحي كل مغرد
يا أنشودة رقصت لها
أوتار قلبي المجهد
يا رعشة الإلهام في روحي
و قيثاري الصدي
…
يا أنت يا حلم الشباب
بشوقه المتجدد
أفديك أنت
فأنت إلهامي
و سر توحدي …
رغم ما يعيش من انشغالات، فانه بحس الشاعر المرهف يلتفت إلى ما لا يلتفت إليه غيره، فيقول مخاطبا شعرة بيضاء ندت بين سواد شعره :
لا تجزعي إن عشت بين الظلام
يا شعرة بيضاء في مفرقي
باكورة للشيب ألفيتها
كذر قرن الشمس في المشرق
إن حفك اليوم سواد الدجى
غدا توالى جيشك الأبلق …
و بصور كريكتورية يتحدث عن راتبه الذي يحلم باستلامه ولا يكاد يغمض عليه باليمين حتى يطير بالشمال، في صور جميلة تحكي واقع الموظفين المعذبين في الأرض من قصيدته (مأساة راتب ) يقول :
شبح أنت أم شعاع سراب ؟
أم خيال يلوح للألباب
أم فتاة تذيب قلب فتاها
ثم تلقيه في خضم عذاب ؟
أيها الراتب اللعوب رويدا
ما ارتوينا من لونك الخلاب
………
كم حملنا لأجل عينك عبئا
و سمعنا من الكلام النابي
فإذا ما شعرت انك دان
من جيوبي قفزت كالمنتاب
حيث تنساب يا خبيث فتغدو
خير خل لتاجر ومرابي
فإذا الجيب لا عدمتك خاو
و إذا الهم لا يبارح بابي
قبل الختام، لعل من المفيد إن أشير إلى أن قصائد هذه المجموعة (الرحيل إلى المنفى الغائم ) كتبت بين عامي خمس وخمسين وست وثمانين من القرن المنصرم، بين الخليل واربد وليبيا ودمشق والإمارات العربية.
و بنظرة سريعة نلحظ أن شاعرنا فتحي الكواملة، من أوائل من احتفى بشعر التفعيلة من شعراء الأردن وفلسطين ، يظهر هذا في قصائد تعود إلى أواسط خمسينات القرن الماضي، إلى جانب قصائده العمودية، معلنا عن شاعرمن رواد الحداثة الشعرية، صاحب تجربة غنية جديرة بالاهتمام والمقاربة.
مجموعة (الرحيل إلى المنفى الغائم)
شعر المرحوم الشاعر فتحي الكواملة
صدرت عن دار الجليل للنشر والتوزيع/ دمشق/ 1987م.
«الرحيل إلى المنفى الغائم» للشاعر فتحي الكواملة.. جرح الثائر وتوق العاشق
14
المقالة السابقة