في مقال سابق بعنوان، «التنوير العربي المقلوب»، وصلني تعليق من السيدة ميسر خريس، تقول فيه: «ما لم يتحرر العقل من سلطة الماضي، لن يكون هناك تنوير. ما من أمة تتحدث عن ماضيها وتعيشه مثلنا». وبالرغم من أن التعليق، يقبض على أحد مضامين مفهوم التنوير، بأنه مشروع «مستمر ودائم» لإعادة إنتاج الماضي في ضوء تحديات الحاضر ورؤية المستقبل، إلا أن وضع شروط مسبقة للتنوير، أحاله لمقاولة، وأنكر الطبيعة الجدلية لمسيرته التاريخية. فالتنوير حاجة تستدعيها ضرورة تحرير العقل من الأفكار التغريبية (قديمها وجديدها).
فالتنوير موقف، ولا يعتمد حضوره على انتصاره المسبق على نقيضه الاحتزالي. ولا يشترط لتحققه، غياب الفكر الاختزالي، أو الـ «لا تنوير». بل إن سيادة الأفكار غير التنويرية هي ما استدعى تاريخياً الفكر التنويري. أي أنه لولا وجود أفكار اختزالية «ظلامية» تغرب الإنسان عن حياته، لما كان التنوير انجازاً تاريخياً عظيماً في مسيرة التطور الإنسانية. فالتنوير قطب في سجال مستمر ضد نقيضه الاختزالي، وديناميكا تطور مستمر ودائم، وليس يوتوبيا تتحقق مرة واحدة وللأبد، بمقاولة ينجزها بعض المستنيرين. فما دام هناك أفكار تغرب الإنسان عن حياته، فإن التنوير ضرورة دائمة للحفاظ على المضمون الإنساني للحياة.
فالتنوير، ليس تسجيلاً على لوحة بيضاء، بل هو رؤية متجددة لحياة الإنسان ودور المعرفة في هذه الرؤية، تضع الإنسان الحقيقي، بما هو عليه، بكل تفاصيله، في المكان الأسمى من حيث غايات المعرفة، ومن حيث مآلات الفعل والنشاط الإنساني. فالتنوير مواجهة مستمرة ضد أي رؤيا تنكر بعضاً من إنسانية الإنسان، وتؤطره في كينونة افتراضية. فهو سجال مستمر ودائم بين رؤية تعيد لملمة شظايا الوجود الإنساني، وتتصدى لمحاولات اختزال الإنسان وتسطيحه. إذ أن فكرة التنوير قامت على أساس التصدي لمحاولات تغريب الإنسان عن حقيقته المركبة والمتعددة الأبعاد، وهي بذلك سجال مستمر ضد لكل محاولات تسطيح الوجود الإنساني واختزاله، ومسيرة مستمرة، لإدامة التقدم والارتقاء الإنساني، عنوانها الاعتراف بكامل الوجود الإنساني، والإقرار بأن هذا الوجود يتطور بشكل مستمر ودائم، نحو آفاق جديدة تستدعي ديمومة التنوير.
فالتنوير لا يُعرّف بخصم واحد، إنه مسيرة متجددة ودائمة، ولا يقتصر على جانب دون آخر، او على مهمة تاريخية دون أخرى. فهو يشمل كل مناحي حياة الإنسان، التي يجب أن تتكامل لتحقق الإرتقاء الإنساني. فمنذ انطلقت فكرة التنوير الحديث، أو ما عرف بعصر الانوار في القرن الرابع عشر، وهناك مسيرة معقدة ومركبة، بين التمسك بإنسانية الإنسان المنبثقة من حقيقته المعاشة، وبين أشكال الخداع والتضليل التي تسعى وتؤدي إلى تغريب الإنسان عن حياته.
والتنوير ديناميكا اشتباكية، وليس مجرد مادة معرفية لتعبئة فراغ ناتج عن، تراجع أشكال الفهم التي تصر على اختزال الإنسان. بل هو تجلي وحضور لفهم جديد، ينحاز إلى جوانب جديدة في حياة الإنسان، ويخوض صراعه المكشوف مع أشكال الفهم القديمة. وللتعبير عن طبيعة العلاقة الجدلية الصراعية بين الفكرة التنويرية، والفكرة الاختزالية، رفض فرانسيس بيكون عام 1603، الاستعارة الأفلاطونية بأن العقل مثل قرص الشمع. ولكنه أوضح الفرق بينهما بالقول: «أن قرص الشمع لا تستطيع أن تكتب شيئاً جديداً عليه، إلا إذا قمت بمسح المكتوب سابقاً، ولكن مع العقل، لا يمكن مسح المكتوب سابقاً فيه، ما لم نكتب شيئاً جديداً». فوجود الفكرة التنويرية الجديدة هي الشرط الوحيد للتخلص من الفكرة القديمة. وأياً ما كانت مساوئ ومحدودية الأفكار القديمة، فسنبقى أسرى لها، حتى تتشكل الأفكار الجديدة، وتحل محلها بمسيرة جدلية مستمرة.