ليس أمراً قليل الأهمية أن يعود وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو من جولته التطبيعية أخيرا بخفيّ حُنين، خائباً لا يلوي على أي مجاملةٍ بدت، لأول وهلة، وكأنها تحصيل حاصل. ولا هو حدث صغيرٌ أن يفشل كبير الدبلوماسية الأميركية في تسويق هدف عزيز على قلب سيده ترامب، المتبتل في حبّ بنيامين نتنياهو، والمتفاني في تدليل حليفته ومنحها كل ما تشتهيه نفسها الأمّارة بالسوء والضم، فتلك لعمري سابقةٌ غير مسبوقة، إن لم نقل واقعة نادرة في سجل خارجية الدولة العظمى، ولا سيما في هذه الرقعة الجغرافية الموصوفة منطقة نفوذ تقليدي للعم سام.
أتى الوزير الأميركي إلى المنطقة مدجّجاً بسلاح الترهيب والترغيب، المعمول به لدى واشنطن، بتلقائيةٍ مفرطة، مرّ مرور السيد الذي لا يُردّ له طلب، وطاف على عجل في ديار عربية، يشكو بعضها الحاجة وقلة الحيلة، فيما يعاني بعضها الآخر من الهشاشة البنيوية، ناهيك عن الخوف على نفسها من مغبّة إغضاب الرجل البرتقالي الأهوج، غير أن رسول الرئيس المهموم بإعادة انتخابه أخفق في مهمةٍ بدت يسيرة أول الأمر، وبدّد بسرعة قياسية قوة الزخم الناجمة عن اتفاق أبراهام المعلن عنه اختراقاً تاريخياً من داخل البيت الأبيض.
لم يدُر في خلد ناظر الخارجية الأميركية، الذي اختطف منه صهر الرئيس جاريد كوشنر ملفّ ما ستعرف لاحقاً باسم صفقة القرن، أن الاحتجاجات الفلسطينية على خروج دولة الإمارات عن الصف العربي سوف تدوّي بقوة مضاعفة في فضاءات النخب السياسية والثقافية العربية، وأن أصداءها الواسعة ستفعل فعلها لدى تلك العواصم المرشّحة للانضمام لركب أبوظبي، كما لم يخالج عقل العرّاب أن حالة من التماسك المفاجئ قد تحصل في ربع الساعة الأخير من شوط مباراةٍ محسومة النتيجة سلفاً، تماماً على نحو ما جاءت عليه، بالحد الأدنى، مواقف من تذرّعوا، كل لاعتباراته، بدوافع عدم الالتحاق بالركب.
والحق أن هذا الموقف المفاجئ من المخاطَبين بالدعوة الأميركية لمحاكاة أبوظبي، ونعني به التمسّك بالسلام مع الفلسطينيين مدخلاً وحيداً للسلام مع العرب، قد أعاد الهرم المقلوب على رأسه إلى قاعدته، ووفر علينا متابعة مشهد الاحتفال الهوليوودي المهين، المقرّر بثه لاحقاً من حديقة الورود في البيت الأبيض، حسب توقيت ساعة الانتخابات الرئاسية، وسط حضور عربي طويل عريض، يصافح فيه أبناء جلدتنا مهنئين نتنياهو على اختراقه الجديد، وهو مشهدٌ أشد إيلاماً للنفس من صورة إشهار عقد زواج خليلة كانت تُزار بعد منتصف الليل خلسة.
وأحسب أن تسويد وجه بومبيو بكل ما في الدبلوماسية من كياسة، وخروجه صفر اليدين من جولته الخائبة، يعد بمثابة وردةٍ حمراء جديدة، هي الثالثة التي تنبت في غضون ثلاثة أشهر، من قلب الحجر الفلسطيني، برمزيته المستمدّة من بلاغة زمن انتفاضة الحجارة، وردةٍ ما كان لها أن تتفتح بهذه السرعة، لو لم تكن متكئةً على جذع شجرة وارفة، مرويةٍ بدماء وعذابات شعب استُضعف كثيراً، وأغُلقت عليه الدروب طويلاً، إلا أنه كان يحاصر حصاره مرّة إثر مرّة، وينجح في استعادة الزمام، معزّزاً وجوده رقماً صعباً غير قابل للشطب من المعادلة.
قبل ذلك كانت الوردة الأولى قد شقّت طريقها من قلب الحجر ذاته، غداة وضع عصاً فلسطينية صغيرة في دولاب “صفقة القرن”، أوقفت دوران الماكينة الأميركية الهائلة، ذات المسنّنات الحادّة، وأخرجتها من حيّز التداول، إلى حدٍّ لم تعد فيه هذه الصفقة تُذكر، لا في الإعلام ولا في الأروقة السياسية، لتليها وردة حمراء ثانية، تفتّحت هي الأخرى لمّا تمكن الموقف الفلسطيني، الرسمي والشعبي، في إطار جبهة دبلوماسية وازنة وذات مصداقية، من دفن خطة الضم في مهدها، وذلك قبل أن تدّعي أبوظبي أن مبادرتها التطبيعية هي التي أوقفت تلك الخطة.
صحيحٌ أن فتى البيت الأبيض الأغر هو في الطريق إلى تجديد مهمة بومبيو الفاشلة، وأن الإدارة الأميركية لن تتوقف عن دفع الدول الموضوعة على قائمة التطبيع للحذو حذو دولة الإمارات، غير أن الصحيح أكثر أن اندفاعة أبوظبي قد استنفدت زخمها، وفقدت بريقها، بل وباتت معزولة، بعدما انصرف المطبّعون المحتملون عنها، إن لم تكن قد انكسرت تماماً، والأهم أن حفلة التطبيع الجماعي التي تتلهف عليها واشنطن لم تعد قائمة.
وردة ثالثة من قلب الحجر /عيسى الشعيبي
11
المقالة السابقة