ربما لم يُفاجأ مراقبون كثيرون بالخطوة الإماراتية تجاه دولة الاحتلال الإسرائيلي، وصدور البيان الأميركي الإماراتي الإسرائيلي الذي اعتُبر بمثابة خطة عمل لبدء الخطوات إلى توقيع معاهدة سلام بين تل أبيب وأبوظبي، برعاية الولايات المتحدة، فقد استبقت هذه الخطوة بمسيرة طويلة بدأت تظهر ملامحها منذ العام 2015، وربما قبل ذلك. لكن الملفت للنظر جعل القضية الفلسطينية وحلها محور هذه الخطوة، علمًا أن إعلان أبوظبي اقتصر على إيقاف عملية ضم إسرائيل أراضي فلسطينية، وحينما تحدث البيت الأبيض عن السلام كان ذلك في إطار خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي رفضها الفلسطينيون. فهل كان إيجاد حل للقضية الفلسطينية غاية هذا التقارب أم وراء النص المعلن أهداف أخرى؟ حتى تتسنى الإجابة على السؤال، لا بد من تفكيك محتويات البيان وقراءتها بعيدًا عن أي موقف مسبق.
تتحدث الفقرة الثانية عن التحدّيات المشتركة بين الدول الثلاث، فهل هي واحدة بالنسبة لهذه الدول؟ وهل سيتناغم بيان موقف كل طرف مع خطوات الأطراف الأخرى؟ لنحصر هذه التحدّيات في منطقة الشرق الأوسط، حتى لا يتوسع المجال كثيرًا، فما هي الأخطار التي تهدد دولة الإمارات؟ يمكن حصرها بخطرين رئيسيين، إيران التي تحتل ثلاث جزر إماراتية، وتهدد أمن الخليج ومستقبل الاستقرار فيه، إذ تتبنى خطة عسكرية تصل إلى حدود بناء قوة نووية. ثاني الأخطار، هو الذي كانت أبوظبي قد حددته بعيْد ثورات الربيع العربي، تيار الإسلام السياسي، وواجهته الرئيسة جماعة “الإخوان المسلمين”، لقناعتها بأن هذا التنظيم هو الخطر الرئيس الذي يهدد النظام الرسمي العربي على المديين، الحالي والبعيد، لما يمتلكه من حضور تنظيمي قوي وجماهيري واضح، فضلًا عن وجود داعم ومساند له في تركيا، ممثلًا بحزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي.. من هنا تحولت أنقرة، بموقفها هذا، إلى واحد من الأخطار التي تراها الإمارات ماثلة أمامها، ولدى أبوظبي القناعة بأن تركيا تسعى جادّة إلى إعادة نفوذها الإمبراطوري من خلال العثمانية الجديدة، وتستثمر بذلك التنظيمات الإسلامية، ومنها “الإخوان المسلمون” ليكونوا أدوات في هذا المشروع، وبالتالي قيادة العالم الإسلامي السني، والهيمنة على ساحته الجيوسياسية. ويُعتبر ذلك هدفا استراتيجيا لتركيا، فيما لا يتفق ذلك مع رغبة الإمارات المتنامية في القيام بدور قيادي في المنطقة، ولذلك تحدد تركيا بذاتها خطرا على مصالحها. أما القضية الفلسطينية، فليس لدى أبوظبي تماسّ مباشر معها، إلا من خلال موقفها في جامعة الدول العربية، وهي ليست خطرًا يُهدّد الإمارات، بقدر ما تنظر إليه الولايات المتحدة وإسرائيل.
بشأن إيران، هي الخطر الرئيس بالنسبة لأطراف الإعلان الثلاثي، وهذا واقعي، وجميع العرب يتفهمون ذلك، ولكن هل تنظر واشنطن وتل أبيب إليه كما تريد (أو تطمح) أبوظبي؟ تعتبر الولايات المتحدة إيران واحدة من دول محور الشر، وتنظر إليها بشكلٍ متخمٍ بالريبة والشك. وقاعدة هذا الموقف احتلال السفارة الأميركية حينما ابتدأت الثورة الإيرانية، في العام 1979، وهذا يشكل أكبر امتهان لقوة عظمى، مثل الولايات المتحدة. استمرّ التنمّر الإيراني على الولايات المتحدة بزعزعة استقرار حلفاء الأخيرة، إذ أجهضت جهد واشنطن في العراق، وهيمنت عليه وطورت برنامجا نوويا وصل إلى أعتاب امتلاك قنبلة نووية. كما نشرت إيران مليشيات تابعة لها في غير بلد عربي. ولم يدفع ذلك الولايات المتحدة إلى تغيير خياراتها تجاه طهران، حيث كان خيارها الوحيد دفع إيران إلى طاولة المفاوضات. وحتى عندما دخلت، والأطراف الموقعة على اتفاق العمل المشترك، زمن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، كان ذلك تنازلا موصولا بتاريخ من الإخفاقات الأميركية في إيران. وحتى حينما غضبت، زمن ترامب، كان جُل ما فعلته الولايات المتحدة الانسحاب من الاتفاق، وبدء سلسلة من عقوباتٍ تمرّست عليها إيران التي بدورها تعلمت وطورت طرقًا عديدة للالتفاف عليها. على الرغم من كل تلك السنوات، لا تزال طهران تمتلك ترسانة من الأسلحة ومليشيات عديدة، وتهيمن على دول. وتحولت بالنسبة للولايات المتحدة من خطر يُهدد مصالحها إلى بقرة حلوب، تدرّ عليها أموالا خليجية، إما لشراء أسلحة أو حماية من هذا الخطر، فأثمرت قواعد عسكرية وتجييشا للمنطقة. وبدا واضحًا كذب واشنطن تجاه حرصها على أمن الخليج، حينما ضربت إيران مصافي لشركة “أرامكو” في السعودية، إذ بدا الرد باهتًا، بلا قيمة في ردع طهران، وإيقافها عن تمردها على المنطقة. ألا يشير ذلك كله إلى أن الولايات المتحدة ليست في وارد الدفاع عن أحد، حتى لو دخلت معه في حلف استراتيجي؟ ألا يشير ذلك إلى أن الخطر الإيراني ليس مشتركًا، بالمستوى نفسه بين واشنطن وأبوظبي؟
أما المشترك بين الخطر الإيراني لإسرائيل والإمارات، فعلى مدى تاريخ العلاقة المتوترة بين طهران وتل أبيب، لم تقع مواجهة مباشرة بينهما، حيث كانت دومًا من وراء حجاب، فالأولى حافظت على مستوى من التوتير بينها وبين الثانية إلى مستوى لا يصل أبدًا إلى حد العراك المباشر، فالوسطاء جاهزون لتولي المهمة، والتزم الجميع بخطوطٍ أسموها حدود اللعبة، والتي كانت دومًا تُدار بخطوط ساخنة، تضمن ألا تنزلق الأمور. وفي إطار هذه الخطوط والوكلاء، استخدمت إسرائيل إيران “بُعبعا” تُجيش من خلاله المجتمعات الغربية والولايات المتحدة لجلب دعمٍ بلا حدود، سواء من خلال أسلحة فائقة التطور أو مال أو دعم سياسي، وحتى الخطر الأساسي الذي ترى تل أبيب أنه يُهدد وجودها، والمتمثل هنا بالبرنامج النووي الإيراني، فهي مطلعة على أدق تفاصيله، من خلال عملية تجسّس، مكّنتها من تحديد مكامن الخطر في هذا البرنامج، وبالتالي سيمكّنها من التعامل معه بمنتهى الدقة. إذًا، هل تشترك إسرائيل والإمارات في هذا الخطر، بالمستوى نفسه، بحيث تدخل الأولى في صراع عسكري لمصلحتها؟
الخطر المشترك الثاني هو التيار الإسلامي، وتركيا الحالمة بمشروع إمبراطوري جديد، فهل يقع في المنزلة نفسها لدى الأطراف الثلاثة؟ تعتبر واشنطن تركيا دولة استراتيجية، فهي عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وشريك مهم في قضايا عديدة في سورية، وفي الحرب على الإرهاب. من الممكن أن تختل العلاقة في قضايا عديدة، لكن المُلاحظ أن الولايات المتحدة تفصل الملفات في علاقتها مع تركيا، فهي قد تختلف معها هنا، وتتفق معها هناك. وتعتبرها الآن “البُعبع” في وجه التنمر الأوروبي حيالها، ولهذا السبب تُطلق يدها في البحر الأبيض المتوسط، بينما تتغاضى عن كثير من سلوكيات أنقرة تراها مستفزة لدول عديدة. أما دعم أنقرة جماعة “الإخوان المسلمين” والتيارات الإسلامية، فلم يتكون لدى الولايات المتحدة موقف معاد لهذا التيار، وبالتالي لا تتفق في نظرتها هذه مع أبوظبي، الأمر الذي يجعل هذا الخطر ليس مشتركًا بين واشنطن وأبوظبي. وبالنسبة لإسرائيل، تركيا شريك اقتصادي واستراتيجي، وإنْ بدت اللهجة غير ذلك، فتركيا دولة كبيرة، ولإسرائيل مصلحة في بقاء العلاقات معها في حدود اللاعداء أو بنسبة الفتور المقبول. أما موقف تل أبيب من التيار الإسلامي، فلا يتجاوز الموقف من حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وهذه العلاقة منضبطة بحدود لعبة دقيقة بين الطرفين، تضمنها مصر وقطر مع اختلاف المصالح، إذًا فهذا الخطر لا يمكن اعتباره مشتركًا بين الأطراف الثلاثة.
بالعودة إلى نصوص البيان، تتحدث فقرتان متلاصقتان عن أجندة استراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، لتوسيع التعاون الدبلوماسي والتجاري والأمني، إذ تجاوز البيان حدود مصالح الدول الثلاث، ليتحدّث عن فضاء جيوسياسي واسع، يشمل المنطقة برمتها. ماذا يعني ذلك؟ تحالفا اقتصاديا أو سوقا مفتوحة، أم تحالفا أمنيا؟ والواضح أنه لن يشمل فقط الدول الثلاث، والسؤال: من سيشمل إذًا؟ وما هي عقيدته؟ وما هي محدّداتها في ظل ما ذكر سابقًا؟ معلوم، أن عقيدة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لا تزال مهيمنة على السلوك الأميركي، والتي تتمثل بالانسحاب من البؤر الساخنة في المنطقة، وتركها لوكلاء محليين يقومون بالأعباء التي حملتها خلال عقود. هل يعني ذلك “ناتو جديدا”، بإدارة أميركية من الخلف؟ يبدو أن هذه الفكرة هي الأكثر ترجيحًا، كما يبدو أن إسرائيل هي وكيل الولايات المتحدة هنا، ودولًا في المنطقة هي الأدوات.
ألا يعدّ هذا الطرح كارثيًا؟ فهو حتمًا سينقل الهيمنة على منطقة الخليج، مباشرة، من إيران والسعودية إلى تل أبيب، وبالتالي تُصبح هاتان الدولتان مجرد أدوات في مشروع إسرائيلي أميركي للهيمنة. هل تقبل السعودية ذلك؟ في وقتٍ سيتحول طبعًا دور مصر إلى حدود واحدة من الأدوات في هذا المشروع، فيما الإجابة على السؤال أن القبول بمشروع كهذا انتحار جيوبوليتيكي، لن تقبله الرياض ولا القاهرة، وربما يدفع طهران إلى تقصير المسافة بينها وبين الرياض، لحل خلافاتهما، بغية الابتعاد عن خطر التهميش.
وتنص الفقرة قبل الأخيرة في البيان: “سيواصل الطرفان جهودهما للتوصل إلى حل عادل وشامل ودائم للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبحسب خطة السلام، ويجوز لجميع المسلمين أن يأتوا لزيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه..”، ألا تُعتبر هذه الفقرة اعترافًا بصفقة القرن التي رفضها الفلسطينيون، والتي تتضمن خطة “الضم”؟ وهل اقتصر حق المسلمين في المسجد الأقصى المبارك والأماكن الدينية الأخرى على الصلاة؟ ألا يساوي ذلك اعترافًا بسيادة إسرائيل على القدس، بأماكنها المقدسة وحاراتها القديمة؟ أليست القدس هذه عاصمة الدولة الفلسطينية التي أقرّتها القوانين الدولية، والمبادرات العربية.. تنسف هذه الفقرة فقرة سابقة بإيقاف “الضم”، بموجب هذا البيان، لأن هذا النص جعل الوصول إلى حلّ يستند فقط إلى خطة ترامب، وهي التي تُلغي حق الفلسطينيين في السيطرة على ما وعدوا به عقودا طويلة. هل “تعنت” إسرائيل سبب كافٍ يجعلنا ننصاع لرغباتها؟
كان الفضاء العربي ذخرًا استراتيجيًا للفلسطينيين، وإن لم يخض حربًا، فقد كانت مجرّد مقاطعته الكيان الغاصب تجعله يستمرّ غريبًا ومرفوضًا، وهذا بحد ذاته مهم. استطاعت إسرائيل في البيان أن تخترق هذا الجدار، ويُعتبر ذلك مكسبًا كبيرًا لها. ويبدو أن اتصالاتها السرية السابقة مع عواصم عربية أعطتها مكاسب أخرى، كنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وقطع الدعم عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).. وها هي تتجهز لتصبح الطرف المهيمن على الفضاء الأمني والاستراتيجي لمنطقة الخليج العربي، وربما المنطقة العربية بأكملها، وهي في الوقت نفسه ستجد هناك سوقًا متمرّسًا على الاستهلاك بأعلى درجات الرفاهية.
لم تدفع إسرائيل، في ذلك كله شيئًا، لا على صعيد الحقوق الفلسطينية، ولا على صعيد الالتزامات المالية والعسكرية. أما الولايات المتحدة فتكسب مالا كثيرا عبر صفقات، وبالتالي استمرار هيمنتها على المنطقة، بواسطة الوكالات، وهي لن تحارب مع أحد ولا من أجل أحد. أما الإماراتيون، فجميع مكاسبهم مؤجّلة، فالخطر الاستراتيجي الإيراني سيبقى قائمًا، ولن تُطلق أي طلقة من إسرائيل أو الولايات المتحدة على إيران لمصلحة الإمارات، في حين يعتقد “الإخوان المسلمون” أن واشنطن لن تفتح جبهةً معهم، لاعتقادها بأنهم ذخر استراتيجي، تلوح به “بُعبعا” في وجه الجميع. وتركيا ستبقى من دون تدخل أميركي بشأنها إلى أن يتعارض ما تقوم به مع المصالح الأميركية، فالأتراك يعلمون جيدًا حدود تلك المصالح، ويقفون عند تلك الحدود. أما خط أنابيب النفط من الخليج إلى ميناء حيفا أو البحر المتوسط، فسينقل الخطر على النفط من إيران إلى إسرائيل، ولكن يكفي أن تغلق تل أبيب “الصنبور” فقط، ولا تحتاج إلا إلى ذلك، لتجعل الجميع يترنّحون ويستجدونها. أما الطائرات العسكرية الحربية، إف 35، والتي يُرهن قبولها بموافقة إسرائيل، فتحتاج سنوات حتى تتم على أرض الواقع، وأي إدارة أميركية قادمة تستطيع إيقاف الصفقة بدون حتى إبداء الأسباب.
يبدو الأمر عجيبًا، بموجب هذه المعطيات، لقد قبض الجميع أرباحهم سلفًا، باستثناء أبوظبي التي بقيت أرباحها في حكم الموعود، بل وعليها أن تقدّم المزيد، إلى درجة أنها تجاوزت حسابها إلى حساب الآخرين الأشقاء، فالفلسطينيون خسروا هنا، نعم خسروا الإمارات ودعمها، والأردن خسر فتجاوز ولايته على الأماكن المقدسة، ويعتبر المس بهذه الولاية انتهاكًا لدوره. فهل تم إعطاء حق الأخ والشقيق لابن العم لإرضائه ولماذا؟ وما المكسب؟ هل السلام هو الغاية؟.. ألم تكفِ ثلاث تجارب سابقة لإثبات أنه لا سلام حقيقيًا بدون إعطاء الفلسطينيين حقوقهم؟ لقد حوّل الإماراتيون الصحراء إلى جنة، يحج إليها كل عشاق الحياة والرفاهية. وبدون شك، أنهم يفكرون بعقلية مختلفة، مكّنتهم من النجاح في كل خطواتهم السابقة، لكن الأكيد على الرغم من ذلك كله أن السلام لأجل السلام لن يصنع السلام، بل سيعطي إسرائيل دفعةً جديدة من الحيوية، لتحقيق مشاريعها في المنطقة، ولكن هذه المرّة من بوابة الصديق الموهوم، لا من بوابة العدو الحقيقي.