الحدث اللبناني الأخير، والمدوي، مثار اهتمام “إسرائيلي” عالي المستوى، حتى وإن بدت الأمور، وكأن الطرف “الإسرائيلي” بعيدا عن الاهتمام الجدي والحقيقي بما وقع في ميناء بيروت. فالوقائع الداخلية “الإسرائيلية” على مستوياتها المختلفة، ترى أن الحدث اللبناني، استثنائي بامتياز، وهو ما دفع صنّاع القرار في دولة الاحتلال الإسرائيلي لإبداء الاهتمام العالي المستوى ومن وراء الكواليس، ودون ضجيج إعلامي.
وكما قالت معظم المصادر العربية في الداخل المحتل، فإن “إسرائيل” استغلت الحدث اللبناني، وانفجار الميناء، وتحديدا العنبر رقم 12، لتذرف دموع التماسيح، ولتعلن عن تعاطفها المصطنع مع اللبنانيين…! بل وأضاءت مبنى بلدية تل أبيب بالعلم اللبناني، تعاطفا مع الشعب اللبناني كما ادّعت، لكنها في حقيقتها دولة ترقص على الجراح، فكيف لها أن ينسى شعب لبنان حروب “إسرائيل” على لبنان والأعمال الوحشية التي تم ارتكابها بحق لبنان والشعب اللبناني في مختلف القرى والبلدات منذ العام 1948 بدءا من مجزرة بلدة (عيترون) في الجنوب اللبناني نهاية العام 1948، وصولا للمراحل التالية حتى الآن، حين كان سكان ومواطنو جنوب لبنان يدفعون الأثمان الغالية جراء اعتداءات قوات الاحتلال الإسرائيلي، وهذا الأمر كان يتم قبل انتشار القوات الفدائية الفلسطينية المسلحة في الجنوب اللبناني، أي بين أعوام 1948 ـــ 1968.
ولم تكتفِ دولة الاحتلال الإسرائيلي بادعاءات سلامية إنسانية حاولت تصدير نفسها بها في الحدث اللبناني، بل عرضت، وعبر تصريحات مسؤولين فيها، وعبر وسائل الإعلام الإسرائيلية، عن استعدادها لتقديم مساعدات طبية ولوجستية للبنان، بل وأعلنت مستشفياتها عن استعدادها لاستقبال جرحى الكارثة في بيروت. لكن الحقيقة وفي زمن الصراع الطويل، تقول الوقائع، إن دولة مثل “إسرائيل”، ملطخة أيديها بدماء اللبنانيين والفلسطينيين، المدنيين خصوصا، ليست قادرة على إبداء الحزن الحقيقي على كارثة أصابت دولة عربية وتقديم مساعدة لها من أي نوع كان. فسياسة “إسرائيل” (وفق ما نشره معلّق إسرائيلي مؤخرا) لا تعرف الحزن على أحد غيرها، وربما أن قادتها لا يعرفون الحزن في أحايين كثيرة، على مواطنيهم وعلى دولتهم نفسها. فهذه الدولة تخصع لهواجس “الأمن”، و”الأمن” فقط، وهذه الهواجس تُستخدم الآن في عدة عناوين: أولها في مكافحة جائحة (كورونا ـــ كوفيد 19). وثانيها في الحديث المتكرر عن المخاطر في الجبهة الشمالية وصولا لإيران وتواجدها في سوريا على مستوى الخبراء العسكريين.
وعليه، تناولت وسائل “الإعلام الإسرائيلية” الانفجار الرهيب في مرفأ بيروت، بتوسع في محاولة غير ناجحة لربط أطراف لبنانية محسوبة على تيار المقاومة بالكارثة التي حلّت ببيروت خصوصا وبلبنان عموما. فأرادت من الواقعة التي حدثت خلط الأوراق، خصوصا وأنها جاءت في وقت يعاني فيه لبنان من أزمات شديدة صحية لها علاقة بمعالجات جائحة (كورونا) ونقص الأدوات اللازمة المطلوبة طبيا وتقنيا، وأزمات اقتصادية متصاعدة لها علاقة بانخفاض قيمة العملة اللبنانية إلى مستويات غير مسبوقة، وأزمات سياسية داخلية بين مختلف الفرقاء، داخل الحكومة اللبنانية قبل أن ينفرط عقدها عمليا مع استقالة رئيسها حسان دياب وخروج بعض الوزراء منها واستقالتهم.
لقد زاد من منسوب القلق في جهاز “الأمن الإسرائيلي” بعد الحدث البيروتي الأخير، من إعلان سوريا وإيران عزمهما تقديم مساعدات للبنان إثر الكارثة، والتخوف نابع بحسب موقع “واللا الإسرائيلي” من أن أطرافا لبنانية مقربة من سوريا وإيران قد تستثمر الوضع لصالحها. وقد أشار المحلل العسكري في صحيفة هآرتس، عاموس هرئيل، إلى أنه “على الأرجح “أن تؤثر تبعات الانفجار على توازن القوى الداخلي في لبنان بين مختلف المكونات السياسية والحزبية”.
وحقيقة الأمر، إن “إسرائيل” تسعى لاستغلال واستثمار الانفجار في مرفأ بيروت، من خلال حملة دولية تهدف للمس ببعض القوى في الخريطة السياسية اللبنانية، وصولا لتنشيط دعوتها لتغيير تفويض قوات الأمم المتحدة في لبنان (يونيفيل)، واستهداف تلك القوى اللبنانية بشكل عام في الميدان السياسي الأممي، وفي هذا السياق، اصطحب “وزير الخارجية الإسرائيلي”، الجنرال جابي أشكنازي، 12 سفيرا لدول أعضاء في مجلس الأمن الدولي إلى جولة عند الحدود مع لبنان، وذلك على خلفية المداولات التي عقدها مجلس الأمن الدولي بعد انفجار بيروت، حول الموضوع وبشأن تمديد التفويض لقوات الأمم المتحدة جنوب لبنان (اليونيفيل). وقال الجنرال جابي أشكنازي للسفراء إن “إسرائيل تؤيد وجود اليونيفيل، لكنها تريد وتطالب بتطبيق هذا التفويض بشكل آخر. وقوات يونيفيل غير قادرة على تنفيذ التفويض الممنوح”.
وقدم “ضباط إسرائيليون” تقارير أمنية للسفراء، فيما اعتبر الجنرال جابي أشكنازي وزير الخارجية أن “إسرائيل لا يمكنها أن تبقى لا مبالية إزاء محاولات أطراف لبنانية لاستهداف سيادة إسرائيل. وتابع أشكنازي أن “انعدام الاستقرار السياسي في لبنان يسمح لبعض اللبنانيين بالسيطرة عمليا على الدولة كلها. سياسيا وعسكريا واقتصاديا، في خدمة إيران. وإيران أخذت دولة لبنان كرهينة”.
وبالنتيجة، إن دولة الاحتلال الإسرائيلي، تسعى بالفعل لاستثمار الحدث اللبناني، واصطناع زوبعة سياسية على المستوى العالمي، خصوصا الأوروبي، بالحديث عن مخاطر الوضع الداخلي اللبناني، ودور بعض الأطراف اللبنانية “السلبي” في المعادلة اللبنانية والشرق أوسطية.
“إسرائيل” وقراءة الحدث اللبناني / علي بدوان
10
المقالة السابقة