عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب.
قد يستطيع البعض أن يلوي عنق الحقيقة او حتى يدها لبعض الوقت وفي ظل الوهم باستحضار “الندابات” والباسهن ملابس مؤرخين، وقد يستطيع ان ينفق في عملية ذر الرماد في العيون، ولكن الوقائع التاريخية الأصيلة لا يمكن القفز عنها او تزويرها، طالما بقي هناك من يملك أدوات البحث ويصحح المسارات ويؤمن بسريان مجرى التاريخ وصيرورته..
اقدم ذلك وانا اتابع الفيلم الوثائقي لـ “الجزيرة” والذي يتحدث عن جزء من تاريخ عُمان الذي ارتدته جغرافيا ممتدة ظلت وفيّه له حين اكسبها الفخر والاعتزاز والنصر، وأمد جذوره فيها لتنجب منه فترات زاهرة وخالدة…
يجري استفزاز عُمان التاريخ والجغرافيا بين الحين والاخر، ويحاول من “قرنه” من طين ان ينطح تاريخها الصلب، وغالبا ما يُكسر قرنه أو يرتد، كما كان حال البرتغاليين والهولنديين وحتى الفرس وغيرهم من الموجات الاستعمارية التي غزت الارض العُمانية الممتدة على طول الساحل الشرقي لافريقيا، وايضا الامتداد الواقع على طول الخليج العربي وما وراء الخليج في شطيه الشرقي والغربي …ففي الشاطئ الغربي كان ساحل عُمان حتى البصرة ، وفي الشاطئ الشرقي حيث ميناء جوادر الذي كان عُمانيا وقد آل للباكستان باتفاق، كنت دائما ادرك ذلك وقد بحثت في ذلك واذكر ان صديقي رجل الاعمال العراقي المعروف “الدكتور ماجد الساعدي” وقد كلفني بالبحث عن مدينة البصرة (خزانة العرب) حين رأى كتبي في تاريخ المكان والتي شملت عشرين مدينة في الأردن وفلسطين، فتوافقت معه ان اعمل كتابا عن البصرة مقابل رعايته لكتابي عن القدس “القدس مدينة السماء على الارض”، وقد قام مشكورا برعاية الكتابين الذين صدرا قبل عدة سنوات…
حين بحثت في البصرة القديمة.. استوقفتني اهميتها التاريخية الأدبية والفكرية والفقهية، فهي مدينة “واصل بن عطاء” مؤسس مذهب المعتزلة الرائد في الفكر والفلسفة والعقائد، وهي مدينة الحسن البصري العلاّمة الفقيه استاذ واصل بن عطاء، والذي خرجت له البصرة على بكرة ابيها حين توفي لتسير في جنازته التي اصبحت مضرب مثل في تلك المناسبة، كما ان البصرة امتلكت مدرسة في النحو العربي هي “المدرسة البصرية” ومنها العالم اللغوي “المبرد”، كما ان منها واضع الاعجام اي النقاط وهو “أبو الاسود الدؤلي”، وقد ناظرت مدرسة الكوفة التي حولت اساطين العلم..
والبصرة ذات شهرة فائقة.. فهي بلد الشاعر بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعديد من اعلام الشعر والادب المعاصرين هذا في التاريخ، اما في الجغرافيا فقد تبدل عليها الغزاة وانقذها العمانيون من الفرس حين ارسل اشهر سلاطينهم “الامام احمد بن سعيد” في عام 1775م وإبان الخلافة العثمانية ابرز سفن اسطوله وعلى رأسها السفينة “الرحماني” التي كانت مقدمتها من حجر الالماس الذي يشق كل معدن يقابلة، وقد استطاعت حملة البصرة العمانية هزيمة اسطول الفرس بقيادة كريم خان وردّه على اعقابه واعادة تسليم البصرة للسلطان العثماني “عبد الحميد الاول” الذي امتدح فعل سلطان عُمان وكرمه على عمله في تلبية نداء الخلافة واهالي البصرة..
حين وضعت كتابي عن البصرة وبحثت له عن غلاف رأيت ان آخذ خريطة للبصرة مطلع عام 1900 وبعد ذلك بقليل، وقد كتب على موقع مدينة البصرة “البصرة ولايتي” كما كتب على امتداد الساحل من مسقط حتى البصرة اسم “ساحل عُمان” ،وقد تأصل ذلك في التاريخ وظل من الثابت فيه ان الارض الممتدة التي تقع عليها الآن دولة الامارات العربية المتحدة هي جزء من ساحل عُمان و من ممتلكات السلطنة العُمانية في جناحها الشرقي الذي كان يتبع مسقط ،ولكن العُمانيين الذين اعطوا معظم القبائل التي في الخليج قديما وحديثا منذ الازد وحتى القواسم ظلوا يرتاحون كون قبائلهم وسلالاتهم تحكم هذه الارض وان تغيرت الاسماء، إذ ظلت الرعاية التاريخية للعُمانيين رغم عقوق الاولاد الذين حاولوا ويحاولون تزوير شهادة ميلاد الارض التي يقفون عليها، ويحاولون اتباع الاصل الى الفرع بدل عكس ذلك وهو الاصل، فالاصل ان يُقال هذا “ساحل عمان” بكل ما فيه من تشكيلات سياسية اعقبت المشيخات المتصالحة التي اسندها الانجليزي لتكون دولا بدل ان تدعى بعض هذه المشيخات تاريخا لا ينتسب لها وجغرافيا لا تمت لها بصلة، لأن نباتات الشرفات المعلقة في شرفات البيوت مهما امتلكت من الالوان او زهو الاغصان لن تصل جذورها الى الارض، بل ستبقى على سطح تراب بعمق الاصبع..
أعود الى كتابي عن البصرة وإلى الخريطة التي عملتها غلافا للكتاب، وقد اثارت ردود فعل عنيفة من بعض دول الخليج التي حاولت ان تحجب الشمس بغربال، فقامت احداها وصادرت الكتاب وقد جمعته من السوق فورا بشراء نسخه المتوفرة في المكتبات واتلافها بسبب الغلاف الذي اعتلته خريطة ساحل عُمان.. من يومها ادركت مدى خطورة الافصاح عن الحقائق و ان الباحثين عن تاريخ غير موجود لن يجدوه، وان وجدوه فهو اقرب الى الزبد الذي يذهب جفاء او الى الضباب الذي ينقشع حين تسطع عليه الشمس..
اعتقد ان ما قدمته الجزيرة يصب فيما كتبت عن سلطنة عُمان، ويصب في ما انجزه الباحثون الكتاب والمؤرخون العمانيون الذي رأيت بعضهم في الفيلم الوثائقي يتحدثون باختصار عن تاريخ مجيد ممتد لا يستطيع احد ان ينكره، وقد كتب عنه كثير من الاجانب والمستشرقين الذين اقروا بفضل هذا التاريخ في امتلاك جغرافيا ممتدة..
الغريب في الأمر ان اصحاب الحق والأرض والتاريخ الاصليين لم يحركوا هذه القضايا، وإنما الذين ادعوا انهم اصحاب التاريخ دون ان يكون لهم ذلك هم حركوا ذلك ليقعوا في شر اعمالهم، فتنهض اقلام الحق والحقيقة لتذيقهم مرارة التزوير حين كشفت الحقيقة عن حلاوتها..
ان في كتابي الأخير الماثل للطبع معلومات عن ذلك، وهي امتداد للمعلومات التي نشرتها موثقة في كتابي عن السلطنة والسلطان الذي حظي بترجمات متعددة لأكثر من لغة..
الحق ابلج والعودة اليه خير من التمادي في الباطل، وسيظل للتاريخ حراس يدافعون عنه حتى لا يشوه مهما بلغ جبروت قراصنة التاريخ..