عروبة الإخباري – “التعبئة الأولى” أو “الملء الأول” لسد النهضة مصطلح تردد كثيراً في الأشهر الأخيرة وتحوَّل لتريند في مصر في أيام كثيرة، فما المقصود بذلك المصطلح؟ وكيف حققت إثيوبيا تلك التعبئة قبل الانتهاء من عملية تشييد السد نفسها؟ وما مدى خطورتها على مصر والسودان؟
متى بدأت عملية بناء السد؟
نهر النيل هو أطول أنهار الكرة الأرضية على الإطلاق ويبلغ طوله نحو 4350 كيلومتراً من منابعه في دول حوض النيل وحتى مصبه في السواحل المصرية على البحر الأبيض المتوسط ويمر النهر بـ11 دولة إفريقية، ومصدر المياه التي تجري فيه هو الأمطار التي تهطل سنوياً على دول المنبع وموسمها يكون شهور الصيف من يوليو/تموز وحتى سبتمبر/أيلول.
وبدأت إثيوبيا في تشييد سد النهضة منذ عام 2011، وهو أكبر سد مائي في العالم وسيصبح حال اكتماله أكبر محطة لتوليد الكهرباء من المياه في إفريقيا، ويبلغ ارتفاعه 170 متراً وطوله 1.8 كيلومتر وسيكون خزان السد عبارة عن أكبر بحيرة في إفريقيا حيث ستغطي مساحة تبلغ 1874 كيلومتراً مربعاً عمقها 170 متراً وسعتها 74 مليار متر مكعب من المياه.
عملية بناء السد، التي لم تكتمل بعد، انطلقت منذ أكثر من تسع سنوات إذن، ويفسر الدكتور كيفين ويلر، الذي يتابع المشروع منذ عام 2012، عملية التعبئة الأولى بالقول إنه عند الأخذ في الاعتبار المرحلة التي وصلت إليها عملية بناء السد فإنه “لا يوجد شيء يمكن أن يوقف ملء الخزان إلى أدنى نقطة في السد”.
كيف يتم البناء دون التأثير على مجرى النهر؟
منذ بداية العمل في تشييد السد عام 2011 على مجرى النيل الأزرق، استمرت المياه في التدفق عبر موقع البناء الضخم، لأن البنّائين كانوا يعملون على بناء الهياكل الضخمة على جانبي النهر دون أي مشكلة، وعندما وصل البناء إلى الوسط، تم خلال موسم الجفاف تحويل مجرى النهر عبر قنوات أو أنابيب، للسماح ببناء هذا القسم.
وبعد أن اكتمل الجزء الأسفل من القسم الأوسط، يتدفق النهر حالياً من خلال قنوات جانبية تقع قرب أساس الجدار، ويقول الدكتور ويلر لهيئة الإذاعة البريطانية BBC أنه مع بدء الشعور بأثر موسم الأمطار في موقع السد، فإن كمية المياه التي يمكن أن تمر عبر هذه القنوات ستكون قريباً أقل من كمية المياه التي تدخل المنطقة، مما يعني أنها ستوفر احتياطي مياه تصبه في البحيرة القابعة خلف السد، ويضيف قائلاً إنه “يمكن للسلطات الإثيوبية إغلاق بوابات بعض القنوات لزيادة كمية المياه المحتجزة، ولكن ذلك قد لا يكون ضرورياً”.
ماذا يعني الملء الأول للسد إذن؟
المقصود هنا هو أن تبدأ إثيوبيا في استغلال موسم الأمطار والبدء في احتجاز كميات من المياه خلف السد كمرحلة أولى من عملية تخزين المياه في البحيرة الضخمة المستهدف تعبئتها بـ74 مليار متر مكعب من المياه، وأعلنت أديس أبابا أنها تهدف إلى تخزين 4.9 مليار متر مكعب من المياه في السنة الأولى، وهو ما أعلن رئيس الوزراء آبي أحمد أمس الثلاثاء 21 يوليو/تموز أنه قد اكتمل بالفعل.
والهدف هنا هو أن تصل المياه خلف السد إلى ارتفاع يوازي أدنى نقطة على جدار السد، مما يسمح لإثيوبيا باختبار أول مجموعة من التوربينات التي تولد الطاقة الكهربائية، وهو ما يعني – طبقاً لمسار الأحداث على الأرض – أن إثيوبيا ستبدأ بالفعل في تشغيل أول توربينين لتوليد الكهرباء مع بداية موسم الأمطار العام المقبل 2021.
كيف سيؤثر ذلك على إكمال تشييد السد؟
مع نهاية موسم الأمطار، أول أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وبداية موسم الجفاف، سوف تنحسر البحيرة قليلاً مما يسمح بإكمال بناء جدار السد، وتهدف إثيوبيا إلى أن تضيف نحو 13.5 مليار متر مكعب أخرى لمياه بحيرة السد في العام الثاني – أي العام المقبل – ليصبح الرقم هو 18.4 مليار متر مكعب من المياه، أي نحو ربع المستهدف لامتلاء البحيرة.
وعندما يتم ذلك، سوف يصل مستوى المياه إلى المجموعة الثانية من التوربينات، مما يعني أنه يمكن إدارة تدفق المياه بشكل يمكن التحكم فيه أكثر.
وفي المتوسط، يبلغ إجمالي التدفق السنوي للنيل الأزرق، الذي أقيم سد النهضة على مساره قرب الحدود السودانية، نحو 49 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، وبالتالي فإن كميات المياه التي تخطط إثيوبيا لاحتجازها في موسم الأمطار لا يجب أن تؤثر في حصة مياه دولتي المصب السودان ومصر بصورة تدعو للقلق، لكن هذا الكلام من الناحية النظرية فقط لأكثر من سبب.
“نهر النيل أصبح بحيرة إثيوبية”
السبب الأول هو إصرار إثيوبيا على ملكيتها منفردة للمياه، والحقيقة أن هذا بالتحديد ما عبر عنه وزير الخارجية جيدو أندرغانشو اليوم الأربعاء 22 يوليو/تموز عندما غرَّد عبر حسابه الرسمي على تويتر قائلاً: “تهانينا! كان اسمه نهر النيل وأصبح النهر بحيرة. لن يتدفق الماء عبر النهر مرة أخرى. ففي البحيرة، استسلمت إثيوبيا لجميع مطالب التنمية. الحقيقة هي أن النهر ملك لنا!”.
وقد يقول البعض إن تغريدة وزير الخارجية الإثيوبي موجهة للداخل، وعلى الأرجح هذا البعض معه حق ولو جزئياً، لكن ما حدث بالفعل حتى الآن يؤكد أن الإدارة الإثيوبية لقصة السد برمتها تتمحور حول تلك النقطة تحديداً وهي ملكية المياه، ولذلك ظلت أديس أبابا تراوغ سنوات وسنوات حتى حققت ما أرادته، وسط رد فعل مصري غير مفهوم وغير مبرر في مسألة “حياة أو موت” بنص تعبير الرئيس عبدالفتاح السيسي، الذي يُحمله منتقدوه المسؤولية كاملة عما وصلت إليه الأمور بتوقيعه على إعلان المبادئ في الخرطوم في مارس/آذار 2015 وهو المستند الذي أطلق يد إثيوبيا لتفعل ما تشاء.
السبب الثاني هو أن عدم اعتراف إثيوبيا بالأساس بوجود حق تاريخي لمصر في مياه النيل وحصتها السنوية البالغة 55.5 مليار متر مكعب، يعني أمرين: الأول خلال سنوات الجفاف والجفاف الممتد، حين تكون المياه شحيحة بفعل الطبيعة من غير المتوقع ألا تحتجز إثيوبيا من خلال السد كميات المياه بالكامل إذا استدعى الأمر ذلك، والثاني هو قيام أديس أبابا بإنشاء سدود أخرى تمنع تدفق المياه من الأصل، أو أن تحذو حذوها باقي دول حوض النيل، وكل هذه أمور حذرت منها جميع الجهات المصرية والمسؤولون طوال السنوات الخمس الماضية، أي أنها ليست سيناريوهات متخيلة من جانب معارضي النظام.
وقد أعلن مسؤولو الري والموارد المائية في السودان بالفعل عن تراجع منسوب المياه في النيل الأزرق بصورة ملحوظة، وهو ما أدى لتوقف بعض محطات مياه الشرب في الخرطوم عن العمل، رغم كون موسم الأمطار الحالي أكثر غزارة من الطبيعي، بحسب ما أعلنه بيان آبي أحمد عقب قمته أمس مع السيسي ورئيس وزراء السودان عبدالله حمدوك، الذي قال إن عملية التعبئة الأولى قد تمت “بفعل الطبيعة”، في إشارة لموسم الأمطار الوفير.
فإذا كان مستوى المياه قد تراجع بالفعل في موسم الأمطار وفي العام الأول الذي استهدفت منه أديس أبابا حجز 4.9 مليار متر مكعب فقط من المياه، فماذا عن باقي شهور السنة أي موسم الجفاف؟ وماذا عن العام المقبل الذي تستهدف إثيوبيا أن تحجز خلاله 13.5 مليار متر مكعب من المياه؟