عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
قبل سنوات كنت في المطار استقبل ضيفا مهما، حصلت على تصريح لأستقبله قريبا من الطائرة..
كان المسافرون يتدفقون عبر الممر المفضي لساحة استقبال الجوازات، كانت إحدى الطائرات القادمة من دولة خليجية قد حطت على أرض المطار أيضا، وقد لفت انتباهي مجموعة كبيرة من ركابها من أصحاب وصاحبات الوزن الثقيل وغير العادي.. وقد كان أنحفهم فوق المائة وعشرين كيلو وربما تخطى بعضهم (160) كغم، وكلهم من مطلع الشباب أو أواسط العمر..
كنت محتارا في تفسير الظاهرة، ولم أكن مقتنعا بأن سكان تلك الدولة هم على هذه الشاكلة لتكون تلك عينة منهم ، كان العدد الذي رأيته وتأملت وجوه أصحابه يزيد عن ثلاثين رجلاً وإمرأة من نفس الحجم والقياس، وقد تكون الملابس العربية الفضفاضة من دشاديش وعباءات نسائية تلبي المطلوب في ستر السمنة بحيث لا يدرك المشاهد حجم تلك الأجسام التي تدخل في ثياب واسعة بلا أحزمة..
بقي السؤال في ذهني لدقائق والطابور من الرجال والنساء يتدفق إلى أن انتهى .. وقد بدأ دليل يأخذهم باتجاه الجوازات، وقد حمل يافطة مكتوب عليها أسم ” زوار عيادة الدكتور محمد خريس – أخصائي جراحة السمنة”..
تقدمت من الشاب وقلت له :هل أنت مرافق هؤلاء ؟ فقال: نعم. قلت: إلى أين ؟ قال: هم زوار “الدكتور محمد خريس”.. عندها تذكرت اسم الدكتور خريس الذي لم أكن التقيته من قبل، وتذكرت شهرته وذيع صيته ، كما تذكرت واقعة الكيد التي واجهها من أحد الاطباء الذي سرب عنه أخباراً كاذبة لم يرد عليها الدكتور خريس وترفع عنها، رغم أنها باعتقادي قد أفادته في تكريس سمعته حين كانت تلك الأخبار الملفقة تستند إلى الحسد والغيرة ومحاولة إلحاق الضرر..
ومضت سنوات ولم أتمكن من مقابلة الدكتور خريس إلا أمس الأول بالصدفة، حين زرت الدكتور علي حياصات مدير “مستشفى الكندي” ووزير الصحة السابق، وسألته عن ملكية المستشفى المميز، فقال: إنه للدكتور محمد خريس، فقلت : هل استطيع مقابلته؟ التي ظلت مؤجلة منذ حوالي عشر سنوات ، فقال : نعم، بعد دقائق سيكون هنا، وبالفعل التقيته وتحدثت معه.. كان طبيبا سمحا متواضعا، وكان لدي ما يكفي من معلومات عن تميزه وتفوقه الطبي والعلمي وعن حجم الشهادات العالمية والجوائز التي يحملها..
بدا لي وهو يحدثني كأنه يعرفني من زمن، وقد ذكر لي أنه قرأ لي شيئا مما أكتب..
لم يفاجئني في علمه وطبه وتفوقه وسمعته العطرة في الناس المشهورين، وحتى الفقراء ممن أجرى لهم عمليات مجانية، ولم يفاجئني أيضا في قدرته على النهوض ببناء هذا الصرح الطبي الكبير والمعلم المميز في الأردن، والذي أصبح محطة استقبال لمرضى من (65) جنسية، قرأت أسماءهم في كشوف أطلعني عليها الدكتور علي حياصات.
ولكن مفاجأتي كانت من ثقافة الدكتور خريس التراثية وعشقه لـشعر “المتنبي” ومحفوظاته منها .. شعرت بالراحة الشديدة ورغبت أن أطيل المقابلة لولا حرصي على وقت الدكتور الذي تحسب كل دقيقة فيه.. وقلت له مازحا “لا تشغل العداد” فابتسم وقال: اليوم “لا عيادة عندي”، وبدأنا نتحدث في التراث، وقلت له : أنا متخصص في شعر الشاعر العباسي “أبي تمام” كتخصصك في أمراض السمنة، وراح يقرأ لي من محفوظاته من شعر المتنبي، وأقرأ له من شعر أبي تمام.. وكانت جلسة ممتعة وجدنا فيها شريكا آخر في حب التراث وفهمه هو الدكتور علي حياصات..
وكنت أعدت على سماع الدكتور خريس دلالة ما واجهه من كيد حُساده وقد تمثل ذلك في قول المتنبي:
وإِذا أرادَ اللّهُ نشرَ فضيلةٍ طويتْ أتاحَ لها لسانَ حسودِ
فابتسم وقال: سأجعل هذا البيت شعاري.. وكنت ما أن أبدأ قراءة بيت حتى يذكر عجزه ، وما يذكر صدر بيت حتى أذكر عجزه.
الدكتور خريس يذكرني بالأطباء المثقفين المصريين الذين عاشوا مهنة الطب وساهموا في كتابة الأدب من شعر وقصة ورواية ، وهم كثر لا مجال لذكرهم من مصطفى محمود الى السباعي الى علي طه وغيرهم..
ما أردت أن أقوله أن لدينا في الأردن ثروة وطنية لا تقدر من كفاءات لاطباء ومهندسين واكاديميين، وقد تكون هذه المهن تحمل أسماء كبيرة، ولكن المشاهير منها معدودون على الأصابع، وقد أحدثوا علامات فارقة في هوية بلدنا الحضارية وكانوا عنوان جذب واستقطاب اقتصادي واجتماعي وحتى سياسي ، إذ أن صورة الأردن في منطقته ومحيطه صورة المتفوق في مجالات الطب والتعليم ونشاطات أخرى تميّز بها الأردنيون.
والدكتور خريس واحد من هؤلاء الذين منهم ايضا الراحل “الدكتور زيد الكيلاني” الذي أجرى أول عملية أطفال أنابيب مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وقد تحمست للكتابة عنه وسط موجة من الإدانة والتكفير تناولت ابداعه انذاك، وقد كنت حينها أكتب في جريدة صوت الشعب التي أصبحت رئيسا لتحريرها، وبعد أكثر من ثلاثين سنة وجدت أن “العمود” الذي كتبته معلقة صورته في عيادة الدكتور الذي قال : أنت من وقفت إلى جانبي وسط حملة قاسية من التشكيك.
قلت للدكتور خريس أنني أحفل بالتفوق والابداع والانجاز والتميز وها أنا أكتب اليوم بعد عشر سنوات من الانتظار لألتقيك وأحقق رغبة سأكتب عنها..