تظهر الثقافة والعلوم والفنون عادة في جوانبها الناعمة سواء كان كتابا مطبوعا أو قصيدة جميلة أو لوحة زيتية أو مقالا في جريدة أو مجلة علمية أو قطعة موسيقية أو فيلما وثائقيا أو تجربة في مختبر، وغير ذلك من المفردات الثقافية والعلمية والفنية المتداولة.
وخلف هذه الجوانب الناعمة، هناك الجوانب الصلبة المتمثلة في الصناعات التي تكمن خلف كل نشاط ثقافي وعلمي وتعليمي وفني، بل وإعلامي، والتي تحول المادة الثقافية أو المعرفية إلى شيء قابل للتداول والانتشار والوصول الى المستقبل النهائي.
وهذا يشمل الجوانب الفنية والمالية والاستثمارية والتسويقية والمعدات والماكنات وكل ما له علاقة بالانتاج. ويأتي في مقدمة الصناعات الثقافية والعلمية “الكتاب” والذي يتطلب، إضافة إلى المؤلف المبدع والقارئ المهتم يتطلب المواد الخام والعمالة المدربة والتمويل والتوزيع والتسويق شأن أي سلعة يجري انتاجها.
ومن هنا، فإن الدولة حين تنظر في الموضوع الثقافي والعلمي والى حد كبير التعليمي، عليها أن تنظر من خلال مؤسساتها بشكل تكاملي للمادة الثقافية ذاتها، وللصناعة التي تصنع المنتج الثقافي والعلمي في شكله النهائي القابل للتداول. وأن تنظر الى “الكتاب” كواحد من الأركان الأساسية للثقافة والعلم والتعليم والتعلم والتوعية والتدريب.
وكلما تراجعت مكانة الكتاب وما في حكمه، وتضاءل انتاجه وقل قراؤه وارتفعت كلفة انتاجه وغلا ثمنه، كلما تراجع العلم والتعليم، وتراجعت الثقافة في عين الوقت، وتضاءل الوعي المجتمعي القائم على المعلومات الصحيحة والقواعد العلمية، وكذلك ابتعد الفنيون في المصانع والمزارع والخدمات عن الدقة والاتقان والتطور. وهذا يدفع الجمهور الى الثقافة الهابطة والعلم المزيف.
ان أعداد الكتب الجديدة المنشورة في كل سنة في كل بلد تمثل واحدا من المؤشرات الأساسية على حالة العلم والثفافة والتعليم هناك. ففي بريطانيا على سبيل المثال تم في العام 2018 نشر ما مجموعه 2870 كتابا جديدا لكل 1 مليون من السكان، وفي اسبانيا 1620 كتابا لكل مليون وينخفض الرقم في فرنسا الى 1010 كتب وفي روسيا الى 711، وتركيا 570 كتابا لكل مليون. أما الأقطار العربية فمتوسطها أقل من 80 كتابا لكل مليون من السكان.
ونحن في الأردن تجاوزنا 200 كتاب لكل مليون من السكان، إضافة إلى الكتب التعليمية المقررة. وتبين الكثير من الدراسات بوضوح أن الكتاب مايزال وسيبقى واحدا من الأعمدة الرئيسية للثقافة والعلم والتعليم والمعرفة وسيبقى كذلك لفترة طويلة خلافا لما يروج له بين الحين والآخر من أن عهد الكتاب قد انتهى والثقافة الورقية قد انتهت لتحل محلها الكتب والمجلات الإلكترونية. إضافة إلى أن التحولات في الشكل من ورقي إلى إلكتروني لا يغير الحقيقة وهي الصناعة الثقافية والعلمية ذاتها وفي جانبها الصلب أو الانتاجي.
ومن هنا فإن علينا أن ننظر في صناعتنا الثقافية والعلمية من زاويتين: الأولى: انها صناعة بكل معنى الكلمة لها قيمتها الاقتصادية بعدة ملايين من الدنانير سنويا وتمثل استثمارات وطنية وتخلق فرص عمل حقيقية. ويكفي أن نذكر هنا أن القيمة الاقتصادية للكتب المتداولة في الاتحاد الأوروبي تصل إلى 12 مليار دولار سنويا أو 26 دولارا لكل فرد مقابل 200 مليون دولار في المنطقة العربية أي بواقع 0.5 دولار لكل فرد. والثانية: ان ازدهار هذه الصناعة وديمومتها هو استدامة للثقافة ذاتها ونشر للثقافة والعلم على المستوى المجتمعي.
إن واحدا من أسباب ضعف التعليم الأساسي والجامعي هو ضآلة رجوع الطلبة إلى المراجع، بسبب ضعف اللغة من جهة، وعدم اكتساب وتجذير عادة القراءة من جهة ثانية، وارتفاع كلفة الكتاب
والمطبوعات المماثلة من جهة ثالثة. فالقارئ الأردني إذا قرأ 10 كتب سنويا تكون كلفتها بالمتوسط 1.50 % من متوسط دخل الفرد وهي تكلفة باهظة، بينما القارئ الأميركي لا تزيد تكلفة 10 كتب سنويا عن 0.4 % من متوسط دخله، أي أن عبء الكتاب الواحد في الأردن 4 أضعاف عبء الكتاب في أميركا و2 ضعف العبء للقارئ التركي أو الهندي. وهذا من شأنه أن يصرف الطلبة والمهنيين والفنيين والجمهور بشكل عام عن القراءة في الكتب والمجلات المتخصصة التي يرغب في قراءتها لزيادة المعارف وتعميقها، فيذهب الى أماكن التواصل الاجتماعي ومجتزآت من هنا وهناك.
وبالتالي هو انصراف عن العلم والثقافة في آن واحد، وتتأتى عنه كلف غير مباشرة في الصحة والتعليم والقانون والصناعة والزراعة وغيرها.
ومنذ الثورة الصناعية الثالثة العام 1970 أصبحت الثقافة العلمية وتفهم العلوم على المستوى المجتمعي ضرورة للتقدم في العلم وفي الصحة وفي الانتاج وفي الزراعة والصناعة والالتزام بالقوانين. ومثل هذه الثقافة لا يمكن ان تنتشر دون قراءة في الكتب والمجلات الرصينة، وكل ما يحمل علما أو فكراً أو ابداعاً. وفي بلد كالأردن وبافتراض أن ذلك سوف يؤثر على فاعلية الخدمات الصحية والتعليمية والانتاجية معا بمقدار 1 % فقط فالحديث هنا يكون عن مئات الملايين من الدنانير تهدر بشكل غير مباشر.
وعليه فإن الدولة مطالبة بدعم الصناعات الثقافية والعلمية في جانبها الصلب في الإطار التالي: أولا: النظر إلى الصناعات الثقافية والعلمية والفنية وفي مقدمتها صناعة الكتاب باعتبارها واحدة من الصناعات الأساسية التي ينبغي المحافظة عليها ودعمها وتقديم جميع التسهيلات اللازمة لها.
ثانياً: دعم معارض الكتاب في العاصمة وفي المحافظات ليكون ذلك حدثا سنويا في كل محافظة. ثالثا: اعفاء مدخلات الانتاج (على ضوء قائمة محدودة من قبل الاتحادات والنقابات ذات العلاقة) من الرسوم والجمارك اما كليا أو بنسبة لا تقل عن 80 %.
رابعاً: شراء الكتب ذات الإضافة المعرفية أو الأدبية وتوزيع نسخ على مكتبات المدارس الثانوية والنوادي الثقافية والشبابية في مختلف المحافظات.
خامساً: حجب مواقع القرصنة الإلكترونية للكتب والمطبوعات.
سادساً: ضبط عمليات تصوير الكتب والمتاجرة فيها وبيعها للقراء وخاصة الطلبة باعتبار ذلك اعتداء على حقوق التأليف والنشر والتوزيع.
سابعا: التوسع في مشروع مكتبة الأسرة ليشمل مئات الكتب سنويا وبمساهمة الحكومة والشركات الكبرى والبنوك كجزء من المسؤولية المجتمعية.
إن المستقبل وتجاوز الأزمات يتطلب العقل العلمي المبدع لدى المتعلم ولدى الطلبة والشباب والمهنيين، ويتطلب المجتمع الذي يتفهم العلم ويشجعه ويتفاعل ايجابيا معه، وان الأردن قادر على أن يصبح مركز انتاج للكتب على المستوى العربي. لكن ذلك لا يتحقق ذلك إلا بازدهار الصناعات الثقافية والعلمية وفي مقدمتها صناعة الكتاب.
تحفيز الصناعات الثقافية والعلمية أو هبوط الثقافة والعلوم / الدكتور ابراهيم بدران
9
المقالة السابقة