مظاهر الارتياح التي قوبلت بها «تفاهمات» فتح وحماس مؤخراً، تستبطن أعمق مشاعر القلق لدى عموم الفلسطينيين وأصدقائهم، من مغبّة أن يكون اجتماع الرجوب–العاروري، مجرد نسخة غير مزيدة وغير منقحة لاجتماعات سابقة، تصدرها عزام الأحمد وموسى أبو مرزوق وغيرهما.
الارتياح ينبع من الحاجة لاستعادة الأمل بتفكيك الانقسام، والتفرغ لمواجهة الاحتلال والاستيطان والضم والعنصرية، بدل الاستمرار في «حرب الأخوة الأعداء»…أما القلق، فمصدره القناعة بأن الفجوات التي تباعد ما بين الجانبين، ما زالت على اتساعها، وهي كافية وكفيلة، بابتلاع هذه «التفاهمات» التي من الواضح تماماً أنها لم تتخط التوافق على «الوحدة في الميدان».
الجانبان اتفقا على «تنحية» خلافاتهما الجوهرية، مؤقتاً على الأقل، والذهاب إلى «وحدة كفاحية ميدانية» في المواجهة غير المتكافئة أصلاً، مع عدو مدجج بالسلاح والكراهية والعنصرية…نحن، إذ نثمن التوجه لوحدة الميدان ونرى فيها مكسباً يتعين الاستمساك به، نقترح بديلاً عن «تنحية» الخلافات، شق طريق لحوار استراتيجي، يجري بالتزامن والتوازي، مع الكفاح الميداني، وبهدف الوصول إلى «تفاهمات أعمق» حول عناوين المرحلة الاستراتيجية التي دخلها الفلسطينيون وقضيتهم الوطنية، مع «صفقة القرن»، وصولاً لبناء توافق وطني عريض حول تعريف أو إعادة تعريف المشروع الوطني، إعادة بعث منظمة التحرير، إعادة توحيد الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، الاتفاق على الأشكال الكفاحية التي يتعين اللجوء إليها، وغير ذلك من عناوين سياسية وكفاحية، وفوق كل هذا وذاك، الشروع في تفكيك منظومات المصالح الأنانية، فردية وفصائلية، التي نمت على جذع الانقسام، وباتت تشكل أكبر العقبات على طريق المصالحة والوحدة.
«الوحدة الميدانية» يمكن أن تكون وسيلة أكثر فاعلية وقناة أقصر، لتجسير الفجوات بين الكيانات والفصائل الفلسطينية المختلفة…ربما تجمد مفاعيل «اللعبة الصفرية» بين فتح وحماس، يمكن أن تفكك منظومات المصالح والامتيازات التي عرقلت جهود المصالحة ومسارها…ويمكن أن تأتي بمزيد من الفاعلين إلى ميادين المواجه، فلا يعود الشعب مستقطباً بين حركتين، بل يصبح هو ذاته، الفاعل الأكبر على الساحة.
«النبرة المتفائلة» و»اللغة التصالحية» المفرطة في تفاؤلها، لا ينبغي أن تكون بديلاً عن محاولة خلق أرضية سياسية وكفاحية صلبة للمصالحة والوحدة…وإعادة قراءة تجربة الانقسام بأثر رجعي، أمر يندرج في إطار «خداع النفس»، وليس «خداع الآخرين» فحسب…فـ»الدم الفلسطيني صار ميّة»، بخلاف ما قيل، وأهدر منه الكثير في سياق الانقسام، وحرب التخوين والتكفير بلغت حدوداً شبيهة بما نشهده في دول «الأزمات المفتوحة» العربية اليوم، ولولا أن الفلسطينيين تحت الاحتلال والحصار، لولا انقسام جغرافيتهم بين غزة والضفة، لما اختلف الحال الفلسطيني عن الحال اليمني أو الليبي أو السوري، ولرأينا من يستقوي منهم بالخارج على الداخل، ويستدعي الجيوش والتدخلات العسكرية، ويستنجد بالبعيد على القريب…هذه حقيقة، يجب أن تكون ماثلة في الأذهان، والمتحاورون يقاربون ملفاتهم المفتوحة، لأن إنكارها يضر ولا ينفع.
حتى ونحن نقرأ وقائع المؤتمر الصحفي وردود الأفعال عليه، لم يكن صعباً علينا تلمس «الفجوات» و»الفخاخ» المبثوثة في ثنايا الخطاب، لا يكفي أن ثمة قناعة مشتركة بأن حل الدولتين بات وراء ظهورنا، الأهم أين نتجه من هنا…لا يكفي الاتفاق على أن المسار التفاوضي بلغ طريقاً مسدوداً، المهم أي مسار سنسلك…لا ينبغي الركون إلى التفاهم حول رفع كلفة الاحتلال، الأهم كيف نفعل ذلك…عشرات الأسئلة الحائرة، التي لا إجابات عليها، سوى بحوار استراتيجي، هادئ وفي العمق، يجري بموازاة «وحدة الميدان»، وينضج على نار المواجهات الساخنة المأمولة والمنتظرة، على خطوط التماس مع الاحتلال والاستيطان.