استجداء التطبيع مع دولة الاحتلال من طرف بعض الأنظمة العربية لا يؤشر فقط على افلاسها الوطني والقيمي والاخلاقي، لا بل أيضا يشوه تاريخ شعوبها وبعضا من قادتها الذين قدموا الكثير من الدعم المادي والمعنوي للقضية الفلسطينية، وما يوسف العتيبي سفير دولة الإمارات العربية المتحدة في واشنطن إلا نموذجا صارخا على هذا السقوط الوطني حين عنون مقالته المنشورة في صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية بــــــ “إما الضم أو التطبيع”، ولا ندري من أين جاء بهذه المعادلة الغير متكافئة لا بعناصرها ولا بمركبها العلمي أو السياسي أو المنطقي.
الصراع الفلسطيني – الصهيوني أو الصراع العربي – الصهيوني أكبر من أن يختصر في عملية ضم، فإذا ما تراجعت عنها دولة الاحتلال سيكافئها العرب بالتطبيع، الصراع يا سعادة السفير لا يقتصر على صراع بين “دولة مُحتلة” مع شعب تحت الاحتلال، بل يتخطاه إلى ما هو أعمق من هذا بكثير، لأن عقيدة الحركة الصهيونية قائمة على نفي الآخر بشكل كُلي، ولديها مخطط بدء منذ مئات السنين قائم على أساس إقامة “دولة يهودية” من النيل إلى الفرات، وهي ماضية بهذا المخطط بشكل تدريجي باستخدام أدوات كثيرة منها الترهيب ومنها الترغيب، ومدعومة بمنظومة مصالح عالمية تدفع باتجاه تحقيق الهدف، واحدى هذه الأدوات تجنيد دبلوماسيين وسياسيين واعلاميين وغيرهم من العرب والعجم لتجميل هذا المخطط الهادف إلى تحويل الشعوب العربية إلى عبيد في أوطانهم لدى “الدولة اليهودية”.
فالحركة الصهيونية تعلم بأن الطريقة الفضلى في هذا الزمن هي استخدام أسلوب “الاحتلال الناعم” عِبر كي الوعي العربي والقفز عن الحقوق الفلسطينية من خلال تطبيع علاقاتها مع الأنظمة العربية الرسمية، كمدخل أساسي لتطويع الشعوب وقبول _الشعوب العربية- هذا الكيان كحقيقة واقعة، لا بل أيضا كدولة رائدة في مجالات علمية كثيرة وأن العلاقات معها ستفتح آفاقا غير محدودة لتحويل المنطقة العربية إلى منطقة ازدها علمي واقتصادي، ….، نعم قد يكون هذا صحيحا ولكن المستفيد الأول والأخير من ذلك هي الدولة اليهودية وليس أيا أخر، وكما تحاول القفز عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، فإنها حتما ستعمل على سحق الامل لدى الشعوب العربية وتحولها في أحسن الأحوال إلى أيدي عاملة رخيصة وخاضعة وخانعة.
خطة الضم يا سعادة السفير هي حلقة صغيرة جدا في مخطط الحركة الصهيونية، ولو أرادت “دولة الاحتلال” السلام والأمن والازدهار لها وللمنطقة بشكل عام، لاستثمرت اتفاقية السلام مع مصر، واتفاقية السلام مع الأردن، واتفاقية السلام “أوسلو” مع الفلسطينيين، ولما وضعت مجموعة كبيرة من التحفظات على مبادرة السلام العربية فرغتها من محتواها، هي أضاعت كل فرص السلام وليس نحن، فقد قتلت “أوسلو” في مهدة، وقتلت من هم حقيقة يردون السلام وما قتل رابين (مع التحفظ على أنه واحدا ممن شاركوا في قتل الحق الفلسطيني) من طرف احد المتطرفين الصهاينة، لأنه تحدث عن حق الشعب الفلسطيني في دولة، لشاهد على أن هؤلاء لا يردون إلا أن يحولونا جميعا إلى خدم لهم.
لغة الاستجداء يا سعادة السفير لن تزيد دولة الاحتلال إلا صلافة وعنجهية، والتغني بأنكم ضد حزب الله وضد حركة حماس (اختلفنا أو اتفقنا معهم)، لن يعطيكم “صك غفران” من طرف الحركة الصهيونية لا بل سيطلب منكم المزيد والمزيد من التراجع والتخاذل، فحزب الله هو من حرر جنوب لبنان وهو من اوقف اعتداءات دولة الاحتلال على دولة لبنان، وحركة حماس هي جزء من النسيج النضالي والاجتماعي والسياسي للشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال، وهناك معادلة يا سعادة السفير تقول بأنه طالما وجد احتلال وجدت مقاومة، فلا يمكن مقاومة الاحتلال بإلقاء الزهور عليه واطلاق شعارات الاستجداء.
يا سعادة السفير نقول لمن شارك وحضر اعلان الرئيس الامريكي ترامب عن صفقة القرن، ومن صرح بأنه عمل مع الإدارة الأمريكية السابقة على بناء جسور ثقة تعود بفوائد كبيرة على إسرائيل –على شكل علاقات مشتركة بين الدول العربية وإسرائيل-، مقابل حكم ذاتي موسع واستثمارات في فلسطين، بأن عليه أن يراجع التاريخ الفلسطيني جيدا لكي يكتشف أن الشعب الفلسطيني بكل مكوناته يريد التحرر من الاحتلال وبناء دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشرقية، وعلى مدار تاريخه الحديث لم يستجدِ هذا الشعب من محتليه حريته، يل ناضل وملا يزال يناضل ويدفع دما مقابل حريته، ونقول أيضا ما قاله شهيدنا الراحل ياسر عرفات “يا جبل ما يهزك ريح” فهكذا تصريحات لن تهز نضالنا وايماننا بالتحرر والعودة، ولن تهز ثقتنا بالشعوب العربية بما فيها شعب الامارات الشقيق الذي قدم دما ومالا للقضية الفلسطينية.
قالها الفلسطينيون ويقولون لا للسلام الاقتصادي، ولن يستطيع أيا كان تجاوز الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ومصير سعي الحركة الصهيونية ومن خلفها الإدارة الأمريكية وبعض العرب المتصهينون إلى ذلك مصيره الفشل، فنحن طلاب حق وحرية وإن كُنا الآن نعيش في زمن رديء فلا يجب ومن غير المسموح أن نهادن هذا الزمن لأن مهادنته خسارة وخيانة، ومن ليس لديه نفس طويل لخوض هذا الصراع فعليه أن يخرج من بيننا، ومن يريد الاستجداء من دولة الاحتلال نقول له وبكل احترام أن لا يتدخل في شؤوننا، فهذا أفضل لنا وله، ومن يريد من العرب “سلام الذل” مع دولة الاحتلال فليعقده بعيدا عنا وعن حقوقنا، ونقول له أن يتذكر قصة “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”.
نقول لسعادة السفير بكل احترام “ما هكذا يا يوسف تورد الأبل”، ونتمنى عليك أن تراجع تاريخ بلدك لكي ترى ما فعله وما قدمه المرحوم الشيخ زايد للشعب والقضية الفلسطينية، وأن تعلم كم من شهداء اماراتيين قضوا من أجل القضية الفلسطينية، وأن تراجع أيضا تاريخ شهيد القدس المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله، وأن تقرأ بعضا مما قاله ابن عائلتك مانع سعيد العتيبة الإنسان الإماراتي الرائع والدبلوماسي الإماراتي ورجل الدولة الفذ، وصاحب الرؤية السياسية الناضجة، العروبي الصادق ابن عشيرة العتيبات أكبر وأهم عائلات الإمارات، في رثاء شهيدنا الرئيس ياسر عرفات، ففي هذه القصيدة قال “وَمَا حَرّرَ الأَرّضَ مَنْ يَسْتكينُ” وبيّنَ فيها للجميع طريق تحرر الاوطان:
أخيراً رَحَلْتَ وَرَانَ السُّكونُ فهَلْ عَرَفَ الكَوْنُ مَاذَا تكونُ؟
وَهَلْ أَدْرَكَ النَّاسُ أَنَّكَ مِنْهُمْ وَيُمْكِنُ أَنّ تَنْتَقيكَ المَنونُ
أَيا يَاسِرٌ إنَّ سِرَّكَ بَاقٍ وَلَمْ تَرَ فَحْواهُ بَعْدُ العُيونُ
فَمُنْذُ ابْتَدَأتَ حَسَمْتَ الجِدالَ وَعَادَ لِمَنْ جَادَلوكَ اليَقينُ
بِأَنَّ الفِداءَ طَريقُ الخَلاصِ وَمَا حَرّرَ الأَرّضَ مَنْ يَسْتكينُ
وَأَطْلَقتَ أَوَّلَ فِعْلٍ جَميلٍ لِيُزْهِرَ فَوْقَ الثَّرى الزَّيْزَفونُ
وَكانَ لأُولى الرَّصَاصَاتِ شَأنٌ وَبِالفعْلِ لا القَوْلِ تُرعَى الشؤونُ
وَأَعْلَنْتَ زَحْفاً وَفَتحْاَ مُبيناً لِتَبْدَأَ ثورَةُ مَنْ لَمْ يَهونوا
سَرَيْتَ إلى عَيْلبُونَ وَكَانَتْ بِدايَةَ فَتْحِ الرَّجَا عَيْلبُونُ
وَقدْتَ المَسيَرةَ مِنْ بَعْدِ هذا وَكُنْتَ الوَفي الذَّي لا يَخُونُ
فِلسطين كانَتْ غَرامَكَ دَوْماً وَمَسْكنُ هذا الغَرامِ الجُفونُ
أخيراً رَحَلْتَ وَرُوحُكَ عَادَتْ إلى اللَّهِ وارتَدَّ لِلأرْضِ طينُ
لِيُكْمِلَ رِحْلَتَكَ الأَوْفِياءُ وَبالأَوْفياءِ سَتوُفى الدُّيونُ
لقَدْ جَمَعَتْنا صَداقَةُ عُمْرٍ وَكُنْتَ لِعَهْدِ الصَّديقِ تَصونُ
عَرَفْتُكَ شَهْماً كَريماً وَفِيَّاً وَبَيْنَ ضُلوُعِكَ قَلْبٌ حَنونُ
وَدَاعاً صَديقي وَنَمْ مُسْتَريحاً فَفي القَبْرِ لا تَسْتَبِدُّ الشجُونُ
لأَرْضِ فِلسطينَ عُدْتَ أَخيراً وَقَدّ أَدْرَكَ الكونُ مَاذا تكونُ
ما هكذا يا يوسف تورد الأبل / كتب: منيب رشيد المصري
9