إن ورقة البنك الدولي، والمعنونة: “استيلاء النخب على المعونات الخارجية، أدلة من حسابات بنوك الملاذات الآمنة”، منتج لجهد معرفي متطور، بدأت في سياق الحوار الذي انبثق بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، حول فاعلية المساعدات التنموية.
صحيح أن فكرة الورقة وبدء العمل بها، سبقت وباء كورونا زمنياً، ولكنه منحها وزناً استثنائياً بفاعلية عاملين: الأول أن نجاح برامج التنمية المحلية عبر العالم الثالث، أصبح ضرورة آنية للحفاظ على أمن العالم واستقراره، فلا يمكن تشكيل شراكة عالمية، لمواجهة الأوبئة والمخاطر الكونية المختلفة مع مجتمعات ودول تتسم بعدم الكفاءة. والثاني الضغوط المتصاعدة على الموارد المالية العالمية، والتي تتطلب رفع كفاءة المساعدات التنموية، وضمان فاعليتها.
وهناك مجموعة نقاط أساسية لا بد من الإشارة لها، عند مناقشة هذه الورقة (وربما غيرها من الأوراق التي تشير إلى الأردن في سياق الحوار العلمي الاقتصادي). أولاً: هذه الورقة ليست “تقريراً تنفيذياً”، يربط وقائع بأشخاص، أو يوصي بتنفيذ إجراءات محددة. هي دراسة اقتصادية، عالجت كمية بيانات هائلة، لبناء معلومة تمكن من تقييم أطروحة فكرية اقتصادية، وهي انخفاض “فاعلية المساعدات الخارجية” في تنمية العالم الثالث. ثانياً: هذه الدراسة صممت ونفذت، لتلبية حاجة البنك الدولي (كما غيره من المؤسسات والدول المانحة) لأفكار وتصورات، لزيادة “فاعلية المساعدات الخارجية”. وهذا ما يشكل بوابة الفرصة الوطنية للتفاعل مع العالم، وتقديم منظور وطني أردني لزيادة فاعلية المساعدات الخارجية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وما يؤكد هذه الفرصة، الإشارة الواضحة بأن الورقة، دعوة للحوار و”لتبادل الآراء حول التنمية”. ثالثاً: الورقة تشير بوضوح، إلى النزيف المستمر للموارد المالية (هجرة رأس المال)، من الدول النامية. والورقة بهذا المعنى، دعوة لحوار استراتيجي عالمي لتطوير سياسة عالمية تمكن من توطين رأس المال، وتزيد من معدلات تراكمه محلياً (في سياق المجهود التنموي)، وليس في حالة تضاد معه. ويمكن للحوار الاستراتيجي مع العالم أن يضيف أيضاً نزيف الموارد البشرية (هجرة العقول)، ونزيف الموارد الطبيعية (انخفاض نسبة القيمة المضافة في المواد الأولية المصدرة).
الجزء الملفت للنظر في الورقة، هو تقييمها لفاعلية الضغط على الملاذات الآمنة، والذي بدأت به الولايات المتحدة، وعدد كبير من المنظمات الدولية، بعد الأزمة المالية العالمية (2008). واستنتج الباحثون قلة فاعلية هذه الضغوط، في وقف أو تقليل نزيف الموارد المالية وزيادة كفاءة المساعدات التنموية. وأشارت الورقة، إلى أهمية العمل على تطوير الجهود المحلية (على مستوى الدول)، لتقليل هجرة رأس المال. ولكنها أجلت هذا الموضوع إلى دراسة أخرى. مما يعني أن هناك موجة ثانية لتصحيح الخلل، وإصرارا استثنائيا على رفع كفاءة المساعدات المالية عبر مقاربات إدارية وقانونية.
وبالتالي فإن فرصة النخب الأردنية (عبر كامل طيفهم السياسي) لتوظيف هذه الورقة، كوسيلة للارتقاء بالحوار التنموي والاقتصادي المحلي، تتجلى في الاشتباك مع الحوار التنموي والاقتصادي العالمي، على مسارين: الأول فاعلية المساعدات الخارجية، والثاني مسار تطوير الإمكانات الوطنية، لحل معضلة الانسجام بين حرية حركة رأس المال من جهة، وتوطينه وتقليل معدلات هجرته من جهة أخرى.
الحوار الاستراتيجي العالمي الذي أثارته هذه الورقة، والتركيز الإعلامي على هذا الموضوع، يقدم للأردن فرصة تتجلى في المبادرة بالدعوة لحوار استراتيجي مع الهيئات والدول المانحة. وقد تكون البداية، بالمبادرة بتشكيل جسم وطني، يقوم على متابعة المشاريع التي يتم تنفيذها عبر المساعدات الدولية، وإصدار تقارير دورية لتقييم هذه المشاريع. بحيث يقدم الأردن ما يثبت، أن هناك فرصة جدية لزيادة فاعلية المساعدات، بتطوير العلاقة بين الحكومة والمؤسسات المانحة، عبر تطوير العديد من قواعد إدارتها.
والاستجابة المقترحة من قبل الحكومة، سبق وتم توضيحها في مقال نشرته الدستور، بتاريخ 8 تشرين أول لعام 2019، وموضوعه، مقترحات للحكومة الأردنية لوقف الهدر في بعض البرامج التنموية الدولية. وضرورة أن تتقدم الحكومة بمبادرة في هذا الخصوص.
وأخيراً، فإنه وبالرغم من العنوان المثير للورقة، فإن ما ورد فيها من بيانات ومعلومات، لا يسمح بتوجيه الاتهام لأحد. ومحاولات توظيفها بالتراشق السياسي، مؤشر على ارتباك علاقة النخب السياسية مع المنتج العلمي. فلا يوجد منتج معرفي علمي يصلح للتوظيف في السجال السياسي. فالمنتج المعرفي العلمي يفرض حكماً تطويرا نوعيا للحوار السياسي الوطني. كما أن استصدار توضيحات مثيرة من البنك الدولي، ومحاولات تفنيد الورقة بخطاب ركيك، يشكك بعلمية دراسة على مستوى رفيع، سوف يستدعي ردود فعل سلبية إعلامية وفكرية، من شأنها حرمان الأردن من فرصة المشاركة بالحوار الاستراتيجي العالمي حول (زيادة فاعلية المساعدات المالية التنموية). المطلوب من الجميع موقف إيجابي، يتفاعل إيجابياً مع سياق الدراسة، (رفع كفاءة المساعدات التنموية)، وأن ينظر للورقة، كمجهود علمي رفيع، يفتح بوابة لتطوير منظور تنموي وطني في ضوء المستجدات العالمية، ويؤسس لمشاركة أردنية في الحوار الاستراتيجي العالمي حول مستقبل التنمية في العالم.