عروبة الإخباري – سلام مسافر
وصلني من الصديق الباحث الاجتماعي الدكتور حيدر سعيد
بيان فردي
تضامنوا لأجل وضع نهاية لحكم المليشيات والأحزاب الفاشية في العراق.
*عن صديقيّ مازن لطيف وتوفيق التميمي وكل معتقلي الرأي في العراق*
مضت أشهر على الغياب القسري للصديقين الكاتبين، مازن لطيف وتوفيق التميمي، ولا اهتمامَ جديًّا تبديه المؤسسات العامة المعنية، سوى بعض الاحتجاجات المتباعدة من أصدقائهما وزملائهما من المثقفين (وهذه واحدة منها)، وكأن الجميع استمرأ الصمت، وتعوّد على الاستثنائي واللااعتيادي: التغييب، والقتل، والاعتقال، والابتزاز، والخطف، والإسكات، فما أكثرَ التغييبَ في العراق، فلمَ يكون غيابُ مازن وتوفيق استثناء، ونحن ننزف بشرًا في كل يوم؟
ولأنه لا ينبغي لنا أن نتطبّع مع اللحظة التي جعلتنا نمضي صاغرين، غير عابئين، والقهرُ يتكاثر من حولنا، ولأن هذا هو لجّة مسعانا الطويل والمضني نحو العدالة والحريّة والحق، فإننا ينبغي أن نسمّي الأشياء بأسمائها، فلم يعد كافيًا أن نطالب الجهاتِ الرسمية بإيضاح مصير مازن وتوفيق وأن تتحلى بمسؤوليتها عن ذلك، بل ينبغي أن نتحدث بصراحة، وأن يكون واضحًا للجميع أن غيابهما القسري هو اعتداء محض عليهما بسبب ما يعتقدان، وأن ما سُمِّي “اختطافًا” هو تبسيط وتحريف لما تقوم به آلة القمع الجبّارة، الخفية، من انتهاك وعدوان على من بقي يفكر، ويكتب، ويعمل، وينشط، فيما تبقى من فضاء حرية خارج إطار سيطرة هذه الآلة.
ولا ينفصل هذا التغييبُ عما تشهده البلادُ منذ ثورة تشرين 2019 وقبلها، وعن سلوك السلطة وقواها في مواجهة الاحتجاجات، فتغييبُ مازن وتوفيق يناظر الآلاف من حالات الاعتداء التي قامت بها قوى السلطة، إذ تلبسها شعور بتهديد وجودي، هو الذي أنتج ردَّ فعلها العنيف تجاه المحتجين السلميين، هذا فضلًا عن أنها شعرت بأن هناك عاملين جعلا الاحتجاجات ممكنة: مجال الحريات المدنية النسبية التي أتيحت بعد 2003، ومصادر التحريض المدني، بما فيها من شخصيات ناشطة ظلت تواظب على بث فكرة الاحتجاج على النظام السياسي القائم، وفشله وفساده وعنفه.
ومن ثم، كانت قوى السلطة تضرب بعصوين لمواجهة الثورة: الاتجاه إلى إغلاق المجال العام بما يفضي إلى إعادة إنتاج نظام سلطوي مغلق، واستهداف الشخصيات الناشطة التي تحرض على الاحتجاج.
غير أن تغييب مازن وتوفيق يكشف أن رد فعل السلطة العنيف على الثورة لا يستهدف الدفاعَ عن النظام فقط، وقد خضّت الثورةُ أسسَه بقوة، وليس استجابةً غريزية آلية في الدفاع عن النفس، وليس محاولة لإطفاء الثورة وإسكاتها من خلال تخويف من ينشط فيها ويؤيّدها، بما يحوّل الاستهداف الفردي إلى إرهاب جماعي، بل – في نهاية كل ذلك – أن يستوي النظامُ، وقد قبض بيديه على الجوهر الذي لا يمكن أن ينفصل عن حراك كهذا: حرية الرأي والضمير، فليس كافيًا للنظام أن يحفظ وجودَه كما هو، باطشًا، عنيفًا، بل ينبغي له أن يضمن ألّا أحد سيتجاوز فضاء التفكير، الذي رسم بنفسه حدودَه القاسية.
في 2007، نشرتُ دراسة عن إشكالية حرية التعبير في الثقافة العربية، حاولتْ أن تلملم بعضَ الخلاصات عن حرية التعبير، انطلاقًا من تجربة السنوات الأربع التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين في العراق. وقد كان واضحًا لي، آنذاك، أن الرقابة على حرية التعبير انتقلت من الدولة إلى المجتمع، وأن الأخير لم يكتفِ بأن يفرض الرقابةَ على حريات الأفراد، حين تتعارض مع قيم الجماعة ومعتقداتها، بل إنه – وقد انهارت الدولةُ وفشلت وضعفت – بات يملك وينمّي من القوى، المختلفة الأشكال، ما يمكّنه من قمع الأفراد، حين تتجاوز طموحاتُهم في الحرية ما تعتنقه الجماعة، سياسيًّا، ودينيًّا، وإيديولوجيًا، وقيميًا.
وخلال السنوات الثلاث عشرة الماضية، بين تلك الدراسة واللحظة التي أدوّن فيها هذا البيانَ الفردي، لم تعد الدولةُ كما كانت، فقد حاولت أن تقوى وتستعيد قدرتَها، غير أنها تعثرت كثيرًا. ولذلك، نَمَتْ (ونَمّتْ) معها قوى من المجتمع (أو تدعي وصلًا به، وبما تسود فيه من معتقدات)، وجدت صيغًا من العلاقة والصلة بالدولة، وحاولت أن تندمج بها، غير أنها ظلت خارج الدولة. والأخيرةُ تقصّدت في أن تبقيها خارجها، سورًا يحميها.
ولم تتوقف هذه القوى عند حماية الدولة، في لحظات التهديد المصيرية التي واجهتها، بل إنها – وقد نمت لها مصالحُ تتحقق وتتجسد في الدولة القائمة – باتت تُمارس العنفَ على مجتمعها نفسه وما يخرج منه، لا ليهدّد الدولةَ القائمة ونظامها، بل ليطمح بدولة أحسن، وحياة أحسن.
هذه القوى، أيضًا وفوق ذلك، تفرض على المجتمع “استواءَه الإيديولوجي” وطاعتَه، فتطيح بكل “العصاة”، الذين يتحسسون فردانياتهم، ويريدون أن يمارسوها، بما يحفّ بها من أحلام، وحريات، وتطلعات.
والدولةُ نفسها، التي لم تستعدْ دورَها بوصفها “رائدة التحديث” كما عرفناها منذ قرن من الزمان، تشرّبت قيمَ الجماعة، بمنحنياتها وطرق فهمها للحريات والحقوق، فأضحت – تلقائيًا – تدافع عنها.
وهكذا، تحوّلت الدولةُ من أداة تحديث، تريد أن ترتقي بالمجتمع (بغض النظر عن تقييمنا لتجربة الدولة في التحديث، ولنا في ذلك الكثير مما نقوله)، إلى أداة تحمي النزعة الثقافوية النامية في المجتمع، المعارضة للتحديث.
هذان الاثنان، الدولة وملحقاتُها، بات يجمعهما المصيرُ نفسه، ليواجها – معًا وبالأسلوب نفسه – التحدياتِ المشتركة التي تعترضهما.
وبهذا المنطق، واجها ثورةَ تشرين 2019، التي كانت – بحقّ – تحديًا للنظام القائم، نحو نظام عادل، ودولة كفوءة، ووطنية غير ملتبسة، وحقوق مصانة، فأطاحا بآلاف الشباب، من ناشطات الثورة وناشطيها، ممن هتفوا بإسقاط هذه النظام.
هذه الدولةُ، ومعها دولةُ الظل، وبهذا المنطق، تغيّبان الصديقين الكاتبين مازن لطيف وتوفيق التميمي، ومعهما الآلاف من معتقلي الرأي والضمير في العراق، ومنهم من قد غيّبته إلى الأبد.
غير أننا سنبقى نواجه هذه الدولةَ، بما نملك من سلمية. ليلُها سينكسر حتمًا، وسيشرق العراقُ الآخر، كما تخيّلته ثورةُ تشرين وشبابُها، ومعه مازن وتوفيق، اللذان لن يعتنقا ولن يقولا إلا ما يؤمنان.
الحرية لمازن لطيف وتوفيق التميمي، ومعتقلي الرأي والضمير في العراق، والمغيّبين بسبب ذلك.
حيـدر سعيـد