النكبة الفلسطينية ليست تاريخا. وليست محض ذاكرة أو ذكرى تتقادم. ولكنها سيرورة مستمرة، منذ اللجوء الكبير إلى يومنا هذا. وعام 1948 هو بدايات الحدث النكبوي اللامنتهي.
والنكبة، التي تعني الكارثة الفلسطينية، مصطلح ينفرد به الفلسطينيون دون غيرهم من الكائنات، تعبّر عن مأساتهم و”هولوكوستهم” ومحرقتهم، وقد صكها المفكر الدمشقي العروبي قسطنطين زريق عام 1948، و”دخلت القاموس العربي بصعوبة، وهي كلمة عصية على الترجمة”، كما يقول إلياس خوري.
ورغم أن إرهاصات النكبة بدأت قبل عام 1948، إلا أن تداعياتها لم تنته حتى يومنا هذا؛ فالفلسطينيون، رغم مرور ما يزيد على 7 عقود، ما زالوا يعيشون في عام 48، ولم يغادروا العام الأطول في حياتهم، ومازالت يومياتهم “النكبوية” تستنسل من ذلك العام بويلاته وعذاباته وشقائه؛ احتلالا وتشريدا وموتا واعتقالا وقهرا، وهي بمثابة رياضة يومية، يمارسها الاحتلال الإسرائيلي على مرأى ومسمع من العالم الصامت والمتخاذل.
وهنا لابد من تصويب معرفي في قولنا أن النكبة الفلسطينية تمر ذكراها الـ 72 هذه الأيام، وهي صياغة غير دقيقة لحدث مازال يوغل فينا ولم يمرّ، والصواب أنها الذكرى 72 لـ(بداية) النكبة، التي بدأت ولم تنته حتى اللحظة. وليس ثمة مؤشرات على انتهائها في الوقت الراهن.
في أيام النكبة الدامية نفذت العصابات الصهيونية أكثر من 80 مذبحة، ودمرت 400 قرية فلسطينية بشكل كامل، وفرغت 11 مدينة من سكانها، ورغم إعلان 7 دول عربية الحرب على الصهيونية في فلسطين إلا أنها وقفت عاجزة، وهو ما دعا 400 ألف فلسطيني للتشرد من بيوتهم، بعدما انتزعت منهم أموالهم وملكياتهم ويهيمون على وجوههم فيما تبقى من فلسطين والدول العربية والعالم، بل انقلبت بعد النكبة الآية؛ حيث تحول التشرد والشتات (الدياسبورا بالمصطلح الصهيوني) من اليهود إلى العرب، وتحول ضحية الهولوكوست إلى جلاد النكبة، وأصبح الفلسطيني “ضحية الضحية”، وفق المفكر إدوارد سعيد.
والنكبة، ليست وليدة الصدفة، وليست حدثا عابرا، بل هي صناعة استعمارية كولونيالية أوروبية، مازالت مستمرة، بدأتها الامبراطورية الاستعمارية البريطانية وترعاها في الوقت الراهن الامبراطورية الاميركية، التي خلّقت إدارتها الترامبية “صفقة القرن”، وهي فعل نكبوي، بما فيها من بنود أبرزها دفن ملف اللاجئين، والعودة طبعا، وإنهاء ملف القدس، وتشريع الاستيطان.. وغيرها، وكل ذلك امتداد للنكبة. وبالتالي، فالنكبة حاضرة في كل تفاصيل كوابيسنا اليومية ومآلاتنا المجهولة، بل نترقب، في الأيام القليلة المقبلة، إعلانا إسرائيليا عن خطة ضم لمناطق في الضفة الغربية وشمال الغور، وهي فعل نكبوي أيضا.
النكبة كانت نتيجة إحلال استيطاني أنشأ دولة أبارتايد، وتعد في القرن الواحد والعشرين آخر قلاع الاستيطان والاحتلال في العالم، ومع ذلك فدول العالم تغمض عينيها عمدا عن كل جرائم إسرائيل التطهيرية العرقية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، والذي جعلت دولته الموعودة، “غير قابلة للحياة”، كجلد النمر، أو كأرخبيل الجزر معزولة، لا يمكن لأي طفل في العالم أن يرسم خريطتها المتناقصة.
والنكبة لم تقتصر على احتلال أرض وتشريد شعب، بل امتدت إلى تجريف التاريخ والثقافة والمجتمع والذاكرة والرواية الفلسطينية، وبالتالي الهوية الفلسطينية، التي عانت من حالة طمس متعمد، وهاهي الآن تعاني من حالة تشظ فلسطيني فلسطيني، جعل الرواية الفلسطينية والقضية الأم تتوارى إلى خلف كل الأحداث، حتى الهامشية منها في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يقتضي إعادة بث روح الحياة في هذه الهوية المتداعية، والقضية التي يخبو حضورها في المشهد الإنساني؛ الإقليمي والدولي، وذلك لإيقاف “السيرورة التراجعية للقضية الفلسطينية منذ عام 1948-2020″، وفق المفكر عدنان أبوعودة.
الفلسطينيون خسروا الحرب، وخسروا السلام، ولم يبق في أيديهم إلا ترميم وحدتهم الوطنية، لأنهم جميعا أبناء النكبة، والبداية من ذلك التاريخ غير البعيد.. النكبة، سيما وأن المشروع الصهيوني مهما تعاظم فهو مشروع قَلِق وجوديا، والدولة الإسرائيلية التي تحاول أن تكون “أثينا” الديموقراطية في الشرق الأوسط هي “إسبرطة” العسكرية في الحقيقة يحكمها الجنرالات (ثنائية نتنياهو- غانتس) ورغم تسلحها المستمر، فلن ينتهي إدعاؤها بـذريعة “أمن إسرائيل”.. وهي مقولة صحيحة وعميقة بالمناسبة، لأنها تجثم على أرض النكبة..