«ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تنسج»
جبران خليل جبران
إن الظروف التي يمرّ بها الأردن الحبيب، ومعه بلاد الشام والعالم بأكمله، بقدر ما تشكّل تهديداً على استمرارنا كشعب، بقدر ما تفتح لنا فرصاً لتصحيح أخطاء تاريخية، دفعنا ثمنها طويلًا. فانتشار جائحة كورونا وما سيأتي بعدها في بلادنا، يتوّج سلسلة من العقليات والسياسات والظروف التي كبّلتنا وأضعفتنا منذ مئة عامٍ على الأقل، حتى فقدنا أرضنا في فلسطين، وسلبنا الاحتلال نفطنا في العراق وقمحنا في الشام، وحكمتنا الصناديق والإعانات الدولية في الأردن ولبنان، والشركات العالمية بالغذاء والدواء والتكنولوجيا والصناعة.
أكثر نقاط الضعف التي يعاني منها الأردن، هي فقدانه السيادة الغذائية بفعل الاتكال على الخارج البعيد في استيراد الغذاء الدائم، ما يجعل بلدنا عرضة للتهديد والابتزاز تحت أخطار الجوع والإفلاس والحصار. صحيح أن الواقع الجغرافي والبيئي للأردن، لا يسمح له بتكوين اكتفاء ذاتي غذائي، إلّا أن هذه الظروف كان من الممكن تقليص آثارها إلى حدودها الدنيا، عبر سياسات بناء الزراعة المستدامة، وعبر إنشاء دائرة سيادة غذائية متكاملة مع سوريا والعراق ولبنان، بكل ما تملك هذه الكيانات مع الأردن من تنوّع وغنى زراعي وحيواني، لطالما شكّلت مصدراً غذائياً لقارات العالم القديم، وتتصارع على خيرها قوى العالم الجديد وأول هذه الخيرات هي الحبوب.
إخوتي الأردنيين،
إن العالم يوشك على تحوّلات جذرية، أوّل ما ستطاله هي سلاسل الغذاء التقليدية في الدول وعند المجتمعات والشعوب. وها هي الدول المصدّرة للحبوب تعلن تباعاً توقّفها عن التوريد إما بسبب نقص في الإنتاج أو لتمسكها بالموارد في هذه الأيام العصيبة وحماية قوت شعوبها وضمانه تحسّباً للمستقبل. وهذا الأمر، يضعنا أمام تحدّيات كبيرة، كدولة أردنية وكشعب أردني وكسوريين وعراقيين ولبنانيين وفلسطينيين. وعليه، فإننا مدعوون إلى التحرّك سريعاً لدرء هذا الخطر.
وحيث أن المسؤولية تقع أوّلاً على الحكومات، فإنني أدعو السلطات الأردنية، إلى الشروع في خطة طوارئ زراعية خلال أيام، وعلى عدّة مستويات، والتدخّل بشكل مباشر وعبر آليات رسمية لاستغلال شهر أيار الان وموسم الخريف لاحقاً وزراعة أكبر قدر من البقاع الزراعية بالحبوب والمواسم «الذكية» والمستدامة ذات البروتينات العالية، والسعي لتأمين مصادر ري لها، بهدف تخفيف خطر انقطاع الغذاء عن الأردنيين. وكذلك القيام بحملات إعلامية وتوعية لإرشاد المواطنين ومساعدتهم بمساعدات عينية وحصص عائلية لزراعة المساحات المتوفّرة لديهم، وتعميم مبادئ الزراعة المستدامة. فتوقّف التصدير في الدول الزراعية والصناعية لن ينعكس على المحاصيل فقط، بل على الأدوية الزراعية والأسمدة ما سيخلّف أضراراً كبيرة في القطاع الزراعي الأردني، وهذا الأمر يحتّم البحث عن بدائل لانتاج غذاء نظيف ومستدام.
أما على المستوى الوطني العام، فلا بدّ من البدء باتصالات عاجلة مع سوريا والعراق ولبنان، وتشكيل لجنة غذائية زراعية من هذه الدول، لوضع آليات عمل واضحة وتبادل الدعم والخبرات والمحاصيل والتنسيق العالي بين الأجهزة المختصة والوزارات والبرلمانات لضمان محاصيل تكفي لشعوب المنطقة خلال عام على أبعد تقدير. وهو الأمر المتاح علمياً وبالأرقام، في حال وُجد القرار والعزم. ولنا في دعوة الكويت لدول مجلس التعاون الخليجي لتشكيل منظومة أمن غذائي خليجي مثال على ذلك.
أمّا المسؤولية الثانية، فهي تقع علينا كأردنيين، باعتبار الزراعة أمام البيوت وعلى الشرفات وعلى سطوح المباني، أولويّة، بحيث أثببت هذه السياسة عن جدواها لدى العديد من المجتمعات المثابرة، حيث أنقذت نفسها من الجوع والحصار، كما فعل الكوبيون. فضلاً عن ضرورة القيام بتغييرات جذرية أيضاً في العادات الغذائية الاستهلاكية التي اعتدنا عليها، وهذا الأمر بدأ يُطرح واسعاً في العديد من الدول. ونحن هنا في بلاد الشام، لدينا عادات غذائية قديمة لطالما حفظت بنية أجدادنا القويّة باعتدالها وتنوعها وتواضعها، وقد حان الوقت للاستلهام منها وإدخال روح المعرفة الجديدة عليها.
وكل هذه الخطوات، تبقى بلا معنىً، إن لم تتقدّم الدول لتقوم بدورها في حماية فقراءها من خطر الجوع وضمان عدالة التوزيع ووصول الأغذية إلى المحتاجين وما أكثرهم هذه الأيام. وكذلك تستوجب من القوى المحليّة والأحزاب والجمعيات والمجتمع الأهلي نشر التوعية والمساعدة على جمع وتوزيع القوت على إخوتهم المحتاجين، وحثّ الدول على القيام بواجباتها.
طارق سامي خوري