(الكتب هي ثروة العالم المخزونة، وأفضل إرث للأجيال والأمم). هنري ديفيد ثورو.
تحصد الدقائق الساعات، يمضي الوقت سريعا، يلحق المساء بالصباح، وأنا منكب بين عشرات الكتب أقلب صفحاتها، أبحث في مادتها الثرة ما يروي ظمئي إلى المعرفة والثقافة والمعلومة والحكمة والأدب والخبرة، ما أبدعته أقلام رواتها وكتابها ومفكريها وعلمائها وشعرائها وأدبائها الكبار، من نصوص تحتشد بجماليات اللغة وأسرارها، وخبرات الحياة ومفاتنها، وشعر عذب يشرح النفس ويطرب القلب ويثري العقل، وأدب رقيق يهذب الأخلاق ويعمق المعرفة ويصقل الشخصية، يحلل وينقد ويشخص ويسقط ويقارن ويعرض لنماذج من الشعر والقصص والروايات والنصوص الجميلة، ورحلات تصور وتنقل شعوب ومدن العالم وآثاره وحاراته القديمة وتاريخه وثقافاته والمواقف والطرائف الملتقطة في قالب آسر جذاب، وعلوم سياسية واقتصادية واجتماعية ودراسات وأبحاث متخصصة وغيرها الكثير مما قدمه العلماء والأدباء والشعراء والمفكرون والمثقفون والباحثون والكتاب والنقاد إلى مكتبات العالم ودور النشر.
إنها الحياة، العالم، التاريخ، الجمال، السعادة، تفاصيل التفاصيل، العلم، المعرفة، الفن، الثقافة، الإبداع، الشك، اليقين، الاجتهاد الذي يقود العقل إلى الحقيقة… جميعها تتجسد في مكتبتي. في تلك السويعات أو الدقائق التي أبقى بين جدرانها الأربعة محاصرا بالكتب تتقافز ما بين يدي والأدراج والخانات والزوايا والأرضية، أحمل هذا وأحتضن ذاك وأضع الآخر، أتأملها في أشكالها الجميلة ولوحاتها البهية ومجلداتها الفخمة وأحجامها التي تتراوح بين الكبير والصغير الطويل والقصير الضخم والضئيل وأوراقها الطرية والخشنة .. وأنا في حيرة من أمري، حول أي منها أبدأ أو أعيد قراءته ثانية وثالثة،
فالعناوين والأشكال والأسماء الكبيرة من المؤلفين كلها مغرية، وفي حسرة على الوقت الذي يمر والساعات التي تتلاشى وقائمة تنتظر القراءة تتضاعف، أتنقل بين العناوين وأشكال الكتب ـ قديمها وحديثها ـ فيقودني بعضها إلى الماضي، وقد اعتدت تسجيل تاريخ الشراء واسم المكتبة وقيمة الكتاب… في أغلفتها، وأقارن الأسعار والأشكال وجودة الطباعة والورق وأتذكر مواقع المكتبات، فهذه رائعة الروائي الكبير نجيب محفوظ، (ملحمة الحرافيش)، وبحسب ما وثق القلم، اشتريتها في ٨/ أغسطس ١٩٨٨م، ١٢ شوال ١٤٠٢ه. و(قصر الشوق)، دفعت فيها ريالا و٦٠٠ بيسة، في ٤ مارس ١٩٨١م، وكلتاهما من (مكتبة أيمن) بروي. أما رواية إحسان عبد القدوس، (لا شيء يهم)، فقد اشتريتها بريال و٢٠٠ بيسة من مكتبة السيب، في ٤ أكتوبر ١٩٧٨م. ورواية (قافلة الزمان)، للكاتب عبد الحميد جوده السحار، في ١٣ سبتمبر ١٩٧٦. فيما اقتنيت (ديوان الجواهري)، بطبعته الجميلة، وأجزائه الخمسة من معرض الكتاب السابع بمسقط في ٢٧ مارس ٢٠٠٢م. وقصة الأمير حمزة البهلوان بأجزائه الأربعة الفاخرة بـ٨ ريالات من مكتبة أيمن في ١٦ أبريل ١٩٨٣.
ويتوسط (وحي الرسالة)، لأحمد حسن الزيات المكتبة في أربعة مجلدات فاخرة، اشتريته بـ٨ ريالات، من معرض الكتاب العربي الثالث الذي أقيم في فندق الشيراتون في ٦ أكتوبر ١٩٩١م. سلسلة عالم المعرفة، إصدارات المنظمة العربية للترجمة، مجموعة مركز دراسات الوحدة العربية، موسوعة تاريخ العالم في القرن العشرين، دائرة معارف القرن العشرين، تاريخ الحضارات، الموسوعة العربية العالمية المصورة، الموسوعة العمانية، موسوعة عمان ـ الوثائق السرية، موسوعة تاريخ أوروبا، الحرب والسلم ليو تو لستوي، مدن الملح لعبد الرحمن منيف، محيط كتمندو لمحمد الحارثي، الذي لا يحب جمال عبد الناصر لسليمان المعمري، مئة عام من العزلة لجابرييل جارثيا ماركيث، تاريخ حكم العرب في إسبانيا، لسان العرب، التفسير المنير، في ظلال القرآن، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، من العقيدة إلى الثورة، البداية والنهاية، سنوات الغليان، إسلام ضد الإسلام. مئات الروايات ودواوين الشعر والموسوعات التاريخية والسياسية والوثائقية والفقهية واللسانيات والفلسفة… تعود إلى مدارس فكرية متعددة، أيديولوجيات متصارعة، آراء وثقافات متباينة، كتاب ينتمون إلى مراحل تاريخية وأمم وبلدان وثقافات تفصل بينهم قرون وبحار ومحيطات وأديان وعقائد ولغات… جميعها تراكمت واحتشدت في هذه الغرفة الصغيرة التي تجمعني بها وشائج ود ومشاعر حب وعلاقات صداقة وأحاسيس محملة بالوفاء،
كل كتاب من هذه الكتب ينطق بلغة وثقافة وفكر ويعبر عن رؤية وفن وقيم وعلم ويقدم لدور نشر تنتمي إلى القاهرة ـ بيروت ـ دمشق ـ الرباط ـ مسقط ـ الكويت… هل ارتويت من الكتب؟ هل مللت القراءة والمطالعة؟ هل أنا نادم على استنزافها آلاف الريالات من دخلي المتواضع أصلا؟ هل لدي الرغبة في زيارة معرض الكتاب الـ(٢٥)، الذي تحتضنه مسقط هذه الأيام لأملأ سيارتي من جديد بعشرات منها تأخذ موقعها في قائمة الانتظار؟ هل أستطيع كبت مشاعر عشقي للكتاب، ومنع نفسي من زيارة معرضه، ودفع المال بسخاء لاقتناء المزيد والمزيد؟ كل المحاولات والجهود التي قمت بها وبذلتها لوقف إدمان شراء الكتب باءت بالفشل، ولست نادما على ذلك، فالكتاب والمكتبة والقراءة تقودني إلى أرفع وأوج درجات السعادة والبهجة والانتشاء مكتبتي الخاصة التي ظللت أغذيها بالكتب على مدى أكثر من أربعة عقود، من المكتبات الداخلية والخارجية ومعارض الكتب وإهداءات الأصدقاء من المفكرين والباحثين والكتاب والمثقفين، هي اليوم مصدر بهجتي في الحياة، بها أفتخر وأفاخر، أشعر فيها بالطمأنينة والراحة النفسية، إنها استثماري الحقيقي فيها أشعر بقيمتي بكينونتي، بصحبة الكتب ينتفي وهم الفراغ، وتتغذى العقول بمشارب المعرفة، ويصل استثمار الوقت والجهد مداهما. تلك هي تجربتي مع الكتب وبناء مشروع مكتبتي الخاصة الصغيرة، بإيجاز أهديها لكل عاشق محب للقراءة والمطالعة وهوس بشراء الكتب، وأجيال المستقبل، لأقول لهم استثمروا معرض مسقط الذي يفتح أبوابه للجمهور صباح هذا اليوم الأحد ٢٣ فبراير والمعارض القادمة، فبالاستثمار في الكتب ينحسر الجهل وتنار طرق المعرفة وتضمن الأمم مستقبلا مزدهرا.