رغم مرور ما يزيد على (30) عاما على التعامل مع صندوق النقد الدولي إلا أنه في كل مرة تأتي بعثة الصندوق للاتفاق على “برنامج تصحيح مالي”، تطلع الحكومة لتتحدث عن خطة اقتصادية تم الاتفاق عليها، وتخرج بعناوين إعلامية مثل “خطة الإصلاح الاقتصادي” أو “البرنامج الاقتصادي”.
لقد آن الأوان أن تقوم الحكومة بمسؤوليتها تجاه الاقتصاد وتبين: إن الصندوق وغيره من المؤسسات المالية والدولية لا تضع خططا ولا ترسم برامج اقتصادية أو اجتماعية أو تعليمية للشعوب، فتغير من بنية الاقتصاد الوطني أو القطاع المعني، لأن ذلك مسؤولية الدولة وخبرائها بالدرجة الأولى والأخيرة. وبالتالي لا بد من سؤال الحكومة على أثر زيارة بعثة الصندوق الأخيرة “أين الخطة الاقتصادية الوطنية، بمفهوم الاقتصاد وليس المال، التي وضعها الخبراء الوطنيون؟ أين الخطة التي شاركت بوضعها وسوف تشارك بتنفيذها مؤسسات القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني حتى يتحقق شعار “دولة الإنتاج”؟ ما هو نصيب كل محافظة من المشاريع الإنتاجية الجديدة؟ وما هي الخريطة الزمنية؟ ومن هم الشركاء؟ لا يجد المواطن إجابات مقنعة حتى اليوم باستثناء العموميات والنوايا الحسنة التي لا تفيد شيئا.
وحسب الخبر الرسمي ” توافق الصندوق مع الخبراء الأردنيين على برامج جديدة بقيمة (1.3) مليار دولار مدتها (4) سنوات تهدف إلى دعم وتحفيز النمو الاقتصادي وخلق الوظائف وتمكين المرأة مع تعزيز استقرار المالية العامة”. ويتوقع الصندوق نموا متواضعا للاقتصاد الأردني بنسبة (2.1 %) للعام 2020 على أمل أن يبلغ معدل النمو (3.3 %) خلال بضع سنوات على المدى المتوسط. وهذا مؤداه العملي: 1- إن الحكومة بعد أن تجاوزت المديونية (30) مليار دينار بصدد أخذ قروض من الصندوق خلال الفترة القادمة بمعدل (330) مليون دولار سنوياً. 2- إن معدل النمو المتوقع هو للسنة العاشرة على التوالي أدنى من معدل النمو الطبيعي للسكان وهو (2.8 %) ومع اللاجئين من أقطار عربية (3.2 %) سنوياً. الأمر الذي يعني استمرار تراجع الوضع المعيشي لدى شرائح واسعة في المجتمع واستمرار تقلص الطبقة الوسطى إلى أقل من (15 %) من السكان. وهو أمر غاية في الخطورة من منظور الحاضر والمستقبل. 3- إن معدل النمو الذي يتوقع الوصول إليه بعد سنوات وهو (3.3 %) يعتبر منخفضاً تماماً بالمقارنة مع الكثير من الدول النامية، مما يعني إن الأزمة الاقتصادية الاجتماعية وأزمة البطالة مستمرة، وان المسار الاقتصادي ليس في اتجاهه الصحيح خاصة وان “الاعتماد على الذات” في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية قد أصبح ضرورة بقاء وليس مجرد خيار.
كذلك لا يكفي الحديث عن تحفيز الاقتصاد وتسهيل الإجراءات دون تثبيت الركائز الرئيسية الأربع للخطط الاقتصادية، ومن ثم وضع الخطة والبرامج التنفيذية الخاصة بها. أما الركائز الأساسية: فالأولى: تغيير عقلية جهاز الحكومة ومواقفه إزاء الاستثمار والمستثمر والاقتصاد، ليقتنع بأن الأردن في طريقه إلى نهوض اقتصادي حقيقي بكل ما يستدعي ذلك التغيير من التأهيل المتواصل والنشرات والتوعية والدورات والتعليمات للموظفين والربط الدائم بين نجاح الاستثمار ونمو الاقتصاد من جهة وبين أداء الموظف ومستقبل تقدمه وترقيته من جهة ثانية واعتبار مؤشرات الأداء نقطة للانطلاق والمساءلة. والثانية: تتمثل في شراكة القطاعين الخاص والأهلي من منظمات وجمعيات واتحادات ليكون القطاعات شريكين رئيسين للحكومة في المشاريع كما في الرأي والقرار. والثالثة: مشاركة الخبراء والمفكرين والعلماء الوطنيين في بناء الخطط ورسم البرامج وتقييم الأداء وإبداع اقترابات جديدة وعدم الاكتفاء بالتقارير الأجنبية أو النمط البيروقراطي ا. والرابعة: تتمثل في حزم المشاريع الإنتاجية الجديدة المستندة إلى التكنولوجيا والإبداع والمستفيدة من الإمكانات الوطنية.
إن البدء في تنفيذ أي خطة اقتصادية ناجعة يستدعي أن تضغط الحكومة باتجاهات ثلاثة: الأول: بضغط النفقات بنسبة مئوية محددة تنسحب على الجميع وبحدود (7.5 %). والثاني: تحصيل أموال التهرب الضريبي والثالث: الإفادة من صناديق الاستثمار والادخار الوطنية. وبذا يطمئن المواطن إلى جدية الحكومة بمستوياتها المختلفة في تحقيق إضافات نوعية إلى الاقتصاد الوطني تنعكس آثارها على المواطن.
إن تخفيض سعر الكهرباء للشركات وإن جاء متأخرا أمر جيد لكنه ليس كافيا. كما أن تخفيض كلفة الإنتاج تتطلب خططا خاصة بكل قطاع. والحكومة تعيش في “متناقضة “paradox لم تجد لها حلا حتى الآن. “ذلك أن تحفيز الاقتصاد الوطني وتخفيض الضرائب وإعفاء مدخلات الإنتاج من الجمارك والرسوم كل ذلك من شأنه أن يخفض العائدات الجمركية والتي بلغت (1.5) مليار دينار في 2019. فماذا تفعل؟ كيف تغطي الثغرة المالية جراء تخفيض الاستيراد وتخفيض الضرائب وتحفيز الاقتصاد الوطني؟”
والخروج يكمن في المسار التالي: أولا: وضع الحلول المناسبة والعملية والناجزة للشركات والصناعات المتعثرة بكل موضوعية وشفافية والاستعانة بالخبراء والاتحادات النوعية والبنوك. ثانيا: الانتهاء من إنشاء الشركة القابضة المشتركة بين الضمان الاجتماعي وبين البنوك لكي تباشر أعمالها خلال فترة قصيرة. ثالثاً: تشكيل فرق بحث من الخبراء والممارسين للدخول في تفاصيل كل قطاع لمعرفة عوامل ارتفاع كلفة الإنتاج من أجور إلى طاقة إلى نقل إلى رسوم… تمهيدا لاتخاذ القرار بتصويب الأوضاع في أسرع وقت. رابعاً: الطلب إلى الشركات الكبيرة والبنوك وكجزء من مسؤوليتها المجتمعية أن تقيم مشاريع إنتاجية في المحافظات منفردة أو بالتشارك. خامساً: أن تقوم هيئة الاستثمار بتزويد الشركات والصناديق الادخارية وصناديق التقاعد والتوفير والجمعيات التعاونية بالمشاريع التي تمت دراستها من حيث الجدوى الفنية والمالية.
سادساً: أن توكل إلى المحافظ ومجلس المحافظة مسؤولية متابعة دعم ومساندة تنفيذ المشاريع الجديدة وتقديم الخدمات والتسهيلات اللازمة لها. سابعا: إنجاز الأطلس الاستثماري للمملكة للسنوات العشر القادمة وكذلك الأطلس الاستثماري لكل محافظة مع تفاصيل كافية ومقنعة. ثامناً: التوسع في إنشاء التعاونيات والصناديق الادخارية والاستثمارية لتكون شريكة في المشاريع الإنتاجية التي تقام في المحافظات وبضمانات من الحكومة. تاسعاً: إعادة إنشاء بنك إنماء صناعي بمشاركة الحكومة والبنوك العاملة وفتح الفروع له في المحافظات. عاشراً: تكليف فريق من الخبراء لدراسة الثغرات القانونية التي تساعد على التجنب الضريبي والذي تقدر قيمته بـ (330) مليون دينار سنوياً. والاستعانة بخبرة إحدى الدول التي نجحت في مكافحة التهرب الضريبي ووضع برنامج (3) سنوات للانتهاء من مشكلتي التجنب والتهرب الضريبي والتي تقدر عائداتها بأكثر من (900) مليون دينار سنوياً. حادي عشر: تشكيل لجنة تطوعية تضم ممثلين عن الشركات (بما فيها البنوك) وممثلين عن الحكومة لوضع برامج المشاريع التي يمكن تنفيذها من خلال مخصصات المسؤولية المجتمعية للشركات. ثاني عشر: منح المشاريع التي تقام في المحافظات نوعاً من الحماية الإدارية الكافية أمام المستوردات باعتبارها جزء من حزام الأمان الاجتماعي. ثالث عشر: إعفاء مدخلات ولوازم الإنتاج للزراعة من الرسوم والضرائب. وإنشاء (3) شركات مساهمة عامة بمشاركة الحكومة لتصنيع المنتجات الزراعية في الجنوب والوسط والشمال. رابع عشر: تكليف كل وزارة ومؤسسة بتكوين فريق عمل متخصص لدراسة “أسعار المنتجات والخدمات في القطاع الذي تعمل به للتعرف على أسباب ارتفاع الأسعار والغلاء المفرط”. خامس عشر: التوقف عن تعديل أسعار المشتقات النفطية بشكل شهري والتحول إلى التعديل النصف سنوي حتى تستقر الأسعار بصورة أفضل.
إن الظروف السياسية والنفسية مواتية لكي يستعيد الموطن ثقته بالإدارة إذا لمس الجدية والمصداقية والشفافية والتنفيذ على أرض الواقع. إن إقبال المستثمر الأجنبي لا يتحقق بالمستوى المنشود مالم يشاهد بوضوح نجاح المستثمر الوطني، والتزام الدولة باستقرار التشريعات التي يتأثر بها لمدة (20) عاما، واهتمام مؤسسات الدولة بتحقيق هذا النجاح. كما إن المستثمر الأجنبي ينبغي الطلب إليه التوجه نحو المشاريع الإنتاجية الجديدة والتركيز على صناعات المستقبل مثل الطاقة والمياه والنقل والروبوطية، وليس صناعة العقار والمال. إن فرص النجاح قريبة إذا توفرت الجدية والعلم والإبداع والمشاركة.
الاردن- صندوق النقد الدولي.. والخطة الاقتصادية / الدكتور ابراهيم بدران
12
المقالة السابقة