أصدر مركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية بالرياض، مجموعة أعمال مؤتمر (2020) وعنوانها: «(تقليد) السلم السياسي في الإسلام: ممارسات السلم وأفكاره عند السنة والشيعة»، وقد اعتاد محمد أركون، دعوة المسلمين إلى استنهاض اللامفكَّر فيه وإعادة اكتشافه، والواقع أنّ التفكير بمسائل السلم السياسي والاجتماعي في الداخل الإسلامي ومع الخارج، ما كان أمراً مقموعاً أو غير مفكَّرٍ فيه، لكن ثورانات المائة عام الأخيرة وجهادياتها وتسيساتها، جعلت من تيارات السلم بالداخل ومع الخارج، «عاراً» على أصحابها القُدامى والمحدثين! والواقع أنّ شأن المسالمة والمصالحة والمودة، ما تعلق دائماً بمواجهة السلطات أو عدم مواجهتها، بل بأنه ما دامت «دعوة» المختلفين واحدة، أي أنهم جميعاً مؤمنون ومسلمون، فما الداعي لسل السيوف بين الإخوة بعضهم على بعض، ويمكن حل كل النزاعات والخلافات بالتشاور والنقاش، دونما عنفٍ أو إراقة للدماء ودمارٍ للممتلكات، ولأن هناك مسائل ما كان حلُّها ممكناً بالحوار، ولأن ثورات المحكِّمة (سمُّوا بالخوارج) كانت شديدة الدموية والفتك، فقد فكر السياسيون والفقهاء، وبدءاً بالإمام علي كرم الله وجهه في كيفيات الحفاظ على السلَمين الأهلي والسياسي، مع إقدار المعارضين على إبداء آرائهم وطرح مطالبهم، فاشترعوا لمسألة البُغاة، وهم الذين يكون لمعارضتهم «تأويل سائغ» اجتماعي أو سياسي، وقد كانت معظم المشكلات مع الولاة تكمن في استيفاء الضرائب والخراج والمكوس، وفي التجمير (التجنيد لآمادٍ متطاولة)، وفي الإجراءات الإدارية القاسية.
إنّ المسألة الأساس أنّ معظم الفئات النافذة في المجتمعات الوسيطة كانت تعتبر الدولة دولتها، وتكره المغامرات الثورية التي لا تنتج خيراً في معظم الأحيان، وما كان شأن رجل مثل أحمد بن حنبل الخوف من السلطة أو منافقتها، بل كان مقتنعاً بأنّ السلم الداخلي في كل الأحوال هو مقتضى الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، وفي كتاب مركز الملك فيصل، كتب سعود السرحان مدير المركز ومحرر الكتاب، المقالة الخاصة بموقف أحمد بن حنبل من السلم السياسي والاجتماعي، ولو كان أحمد خائفاً أو مخاتلاً، ما اختلف مع ثلاثة خلفاء في مسألة خلق القرآن، وفي الكتاب نفسه كتب دارس الفقه المعروف Robert Gleave عن رسالة الشريف المرتضى في جواز العمل مع السلطان، واحتار في اعتبارها «تقية» أو مُسالمة وتنازُلاً، أو هي الأمران معاً؟ وما عالجت بحوث الكتاب الحقب السلجوقية والمملوكية، وكان فيها فكرٌ سلمي كثير، فلكي ينشر ابن فضل الله وزير الإيلخانيين المغول السلم بينهم وبين المماليك، باعتبارهم جميعاً مسلمين، ولا يصح إطلاق مصطلح «الجهاد» على النزاعات فيما بينهم، عمد لتأويل آيات السيف في القرآن الكريم، ذاهباً إلى أنها منسوخة! وعندما سئل عن ذلك أجاب بأنه صنيع مشروع لأن مقصده حفظ النفس!
وقد اعتبر كاتب المقالة عن فتاوى «الهجرة» من القوقاز في القرن التاسع عشر، أنّ أحد التأويلات أنها كانت فتاوى مسالمة واستقرار، والواقع أن فتاوى الهجرة من بلدان القوقاز والهند والجزائر كانت بداية مشكلات هذا الوعي الفصامي المتصاعد، فقد كان تعليل الهجرة أنّ الدار لم تعد دار إسلام، وأنه لا يجوز البقاء فيها، وقد أمكن للداغستانيين وغيرهم الهجرة إلى الدولة العثمانية، فإلى أين كان بوسع المسلمين الهنود الهجرة؟ تصوروا: إلى بلاد الأفغان! وقد هلك منهم خلال قرن عشرات الألوف في الطريق، إذ ظلت فتاوى التهجير تتوالى حتى عام 1920، وقد وقع هذا الفكر في أصل الانفصال عن الهند عام 1947!
إنّ كتاب السلم في الدين والأهل والدار والدولة، وكما يكشف عن تيارٍ فكري واسع للسلم في الماضي، فهو يؤشّر إلى مسالك للأمن والاستقرار والمصالحة والسلام، في الحاضر والمستقبل.