ما الذي تحقّق لليبيا في مؤتمر برلين؟ تعهّدت الدول المشاركة عدم التدخّل في الشؤون الليبية والتزام حظر إرسال أسلحة إلى الفريقين المتقاتلين، كما طلبت تثبيت وقف إطلاق النار، وأيدّت خطة المسارات الثلاثة التي طرحها المبعوث الأممي للانتقال بالهدنة إلى معالجة الأزمة في أبعادها الأمنية والاقتصادية، وصولاً إلى أحياء الحوار السياسي الليبي – الليبي… تلك كانت العناوين، وقيل إن الدول كافة توافقت عليها من دون الدخول في التفاصيل، وما لبث اجتماع وزراء دول جوار ليبيا في الجزائر أن أكّدها لكن أيضاً من دون التفاصيل، وقد تُركت عملياً لمجلس الأمن الذي ينبغي أن يصوغ هذه التوافقات في قرار دولي جديد.
في أي حال، برزت في كواليس مؤتمر برلين اعتراضات وخلافات تشكّل عيّنة مما قد ينعكس على تماسك الهدنة القتالية، وكذلك على المناقشات المتوقّعة في مجلس الأمن. فرغم اقتناع الجميع بأن وقف إطلاق النار لكي يصمد ينبغي أن تتوافّر قوة دولية لمراقبته، وتردّد أن قوة أوروبية اقتُرحت لهذه الغاية وعارضتها روسيا، وأُبقي إمكان إرسال قوة أفريقية قيد البحث. لكن الأمم المتحدة التي تملك تقويماً دقيقاً للوضع الميداني نصحت بالاكتفاء بلجنة عسكرية محدودة للمراقبة. ومن الواضح أن موسكو أرادت استبعاد أي عودة لحلف الأطلسي ودوله إلى لعب دور في ليبيا كما فعلت إبان إسقاط النظام السابق، كما أن الرئيس الروسي الذي حضر شخصياً إلى برلين أراد أن يدرس عن كثب إمكان سحب الملف الليبي من الأوروبيين لنقله إلى تنسيق مع تركيا على غرار ما هو حاصل بالنسبة إلى سوريا.
لكن فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان لا يعملان على الموجة نفسها، ولا يتدخّلان بالطريقة نفسها ولا من أجل الأهداف ذاتها. وإذا كانا وجدا أرضية للتفاهم على مصالحهما في ليبيا فهذا لا يشمل رؤيتيهما لمستقبل الحكم فيها، غير أن المصلحة تقتضي أيضاً احتفاظ كلٍّ منهما بأوراق مستورة. ذاك أن روسيا تعمل من جهة بذهنية استراتيجية واسعة تتخطّى المجال الإقليمي، ويهمها من جهة أخرى إبقاء الأوروبيين معنيين بالملف الليبي كونهم مصدر دعم تمويلي لمرحلة ما بعد انتهاء الأزمة الليبية، تماماً تنظر روسيا إلى علاقتهم بالملف السوري. لكن مع فارق أن الأوروبيين يتوجّسون في اللحظة الراهنة من احتمال حرب مفتوحة في ليبيا وتدفق موجات من اللاجئين قد يكون بينهم إرهابيون. والواقع أن أردوغان لوّح بهذه الاحتمالات في أكثر من مناسبة بغية الحصول على تأييد أوروبي حاسم لـ «حكومة الوفاق»، أي لميليشيات طرابلس.
وكانت خريطة الطريق دائمة الوضوح: هدنة ثابتة، فحوار سياسي، فاتفاق مفترض على عملية سياسية. هذا ما تطمح إليه محادثات جنيف التي تفتتح في الأيام المقبلة. ولعل إعادة طرح السؤال عن أسباب اندلاع القتال تحمل عناصر الإجابة عمّا إذا كانت الهدنة ستصمد أم لا. وهذا بدوره يطرح التساؤل عن كيفية تعايش بعض المجتمع الدولي مع واقع الميليشيات في طرابلس وعمّا إذا كان يعزّز «الشرعية المعترف بها دولياً» لحكومة فايز السراج أم ينتقص منها، واستطراداً هل أن المجتمع الدولي مستعد للاعتراف بمن قاموا بانقلاب 2014 وبمحاولتهم إقصاء الجيش الوطني ومن ثمَّ بإعطائهم حصة «ثابتة» في الحكم مع ما يعنيه ذلك من «أخونة» للنظام والدولة ومن افتئات على هوية البلد وشعبه؟ تلك هي الأسئلة التي لا يبدو أن أحداً يريد مواجهتها صراحةً، ولذلك فإن أي نقاش دولي في شأن ليبيا يبقى ناقصاً.