في خطابه المتميز أمام البرلمان الأوروبي في مدينة ستراسبورغ النمساوية، أشار جلالة الملك عبدالله الثاني إلى الأزمات المعقدة التي تعاني منها المنطقة، ابتداء من غياب الأمن وعدم الاستقرار، واستمرار العدوان الإسرائيلي على فلسطين، والحروب الأهلية بكل الدمار الاقتصادي والعمراني وملايين الضحايا، مروراً بمعاناة ملايين اللاجئين والنازحين وانتشار الفقر، والإحباط الذي يعاني منه الشباب، وفقدانهم الأمل نتيجة عدم الاستقرار وضياع الزمن واستفحال البطالة، وانتهاء بمطالب الشعوب بالتغيير من أجل الحرية والعدالة والتنمية.
ودعا الملك أوروبا بشكل خاص، والمجتمع الدولي بشكل عام، للمساعدة بمواجهة هذه المشكلات وإعادة المنطقة إلى حالة من الهدوء والاستقرار، حتى تتجه إلى البناء والتنمية والسلام.
والمتأمل فيما يدور في المنطقة، يلاحظ أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وخروجها في كل إجراء تقوم به على القانون الدولي، واستنادها إلى الدعم الأميركي المنحاز والمطلق، وإلى التغطيات الإعلامية المزيفة، واستمرار الانقسام الفلسطيني. كل ذلك شجعها على التغول في وحشيتها تجاه فلسطين المحتلة من جهة، وإنعاش أطماعها التوسعية من جهة ثانية، والإمعان في الدعم السري للحركات الإرهابية والانقسامات العربية من جهة أخرى.
أصبحت بعض الأقطار على حافة الانقسام أو الانهيار السياسي، كما هو الحال في سورية والعراق واليمن وليبيا، وأخرى تعاني من أزمات اقتصادية وإدارية وسياسية خانقة، ما زاد من هشاشة المنطقة، وجعلها “رجل العالم المريض”.
ولا شك، بأن وجود النفط في المنطقة العربية بنحو 42 % والغاز 28 % من الاحتياطي العالمي، مقترناً بالضعف العربي، كثف التدخلات الأجنبية لضمان مصالح الدول والشركات، ما ساعد على تأجيج نيران الصراع والفتن والاقتتال.
كما أن الكثير من السياسيين والقادة العرب الذين يفتقدون أساسا للشرعية الوطنية والدعم الشعبي من مواطنيهم، اندفعوا إلى الاستعانة بالأجنبي بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب الأوطان بكاملها.
ونتيجة لاختلاط الأوراق وتعدد الأطراف وتضارب المصالح، اندلعت حروب بالوكالة غير معلنة، بين الحلفاء أنفسهم، وقودها المنطقة ذاتها.
إن الأسباب وراء عدم استقرار المنطقة عديدة وعميقة الجذور، لكن أبرزها ذاتية تعود إلى إدارة دول المنطقة لشؤونها الداخلية والمشتركة، وفي مقدمتها: أولاً: السلطوية والتفرد في الحكم، وتشبت الفئات الحاكمة بالسلطة، برغم فشلها في كل شيء، ما استتبع تراكم الفشل والأخطاء من جهة، وتجذر الفساد وسوء الحاكمية، بكل ما يتضمن ذلك من ضياع للفرص وانخفاض في كفاءة الأداء، واستنزاف الاقتصادات الوطنية، وبالتالي تدني معدلات النمو الاقتصادي من جهة ثانية، وتصاعد الحنق والرفض الشعبي بانتظار الفرصة المواتية للتمرّد والثورة من جهة ثالثة.
ثانياً: اعتماد دول المنطقة على الدعم الأجنبي المالي والعسكري والتكنولوجي، والاستيراد لكل شيء، وعلى المعونات والمنح والقروض والمساعدات بأنواعها خلال عشرات السنين، ما همش القوى الوطنية المجتمعية المبدعة، وضاعف من هجرة العقول والمهارات، وقلص من قدرة الدولة على الحركة وقيد حريتها في القرار.
ثالثاً: الإفراط في الإنفاق العسكري، ما جعل المنطقة العربية الأولى في استيراد المعدات الحربية عالميا. كل ذلك على حساب الاستثمار في الإعمار والتنمية والصحة والتعليم.
رابعاً: تفاقم البطالة ليصل معدلها في المنطقة 15.7 % أي ضعف المعدل العالمي، وتصاعد الإحباط لدى الشباب والشرائح محدودة الدخل نتيجة للفقر وانعدام الفرص وغياب البرامج الوطنية للنهوض، وهذا جعلهم باحثين عن بدائل حتى لو كانت عدمية، طائفية أو جهوية أو خارجية.
وكذلك إهمال الأرياف والأطراف، ما فاقم من هجرة الريف للمدينة، وأضعف الزراعة ووسع من جيوب الفقر في القُرى والمدن الكبيرة، وحولها إلى بؤر جاذبة للتطرف أو راغبة في الخروج على الدولة.
خامسا: تراجع التعليم وهبوط الثقافة وانتشار فكر التطرف والإرهاب الذي وجد في البيئة المجتمعية، حاضنة ملائمة، نظراً لفقدان الثقة في الإدارات والرغبة في التحدي والانتقام والتغيير بأي وسيلة.
سادساً: غياب الديمقراطية وانعدام المشاركة، وتكريس واحتكار الطبقة السياسية للمواقع والمنافع، واستعدادها للتعاون مع الأجنبي للمحافظة على مواقعها ومكاسبها، حتى لو كان ذلك على حساب الوطن.
سابعاً: غياب أي مشروع وطني للنهوض والتقدم، وتصنيع الاقتصادات عبر برامج تشارك في رسمها وتنفيذها القوى والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.
ثامناً: وجود النفط والغاز في المنطقة، ما جعلها جاذبة للقوى الدولية وللشركات العالمية، وسعي هذه وتلك للسيطرة على مصادر النفط والغاز بأي ثمن.
تاسعاً: فارق القوة الكبير عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً وعلمياً ولوجستياً بين الدول العربية من جهة والإقليمية والكبرى من جهة ثانية، وهذا جعل من السهل على القوى الخارجية أن تتدخل بشتى الوسائل، وتخلق عملاء ووكلاء وعصابات، تساعدها على تحركاتها غير المعلنة.
عاشرا: الدور الإسرائيلي غير المعلن في تنفيذ استراتيجيتها الأمنية الكبرى، القائمة على تفتيت واستنزاف الدول المحيطة بها، بخاصة العراق وسورية، وتحييد مصر نهائيا، وتحويل إسرائيل إلى مركز اقتصادي وعلمي وتكنولوجي لوجستي للمنطقة.
تغيرت المجتمعات في العالم بسبب ثورة المعلومات والاتصالات وانتشار المعلومات والبيانات، وارتفاع الوعي بضرورة العدالة والمساواة والمواطنة، ورفض استمرار النمط التقليدي للإدارة، وفي الوقت عينه، استمر عجز القيادات والإدارات الحكومية عن الإحساس بـ”صدمة التخلّف”، وإدراك متطلبات التغير والتغيير، واستمرار إقصائها لأهل العلم والخبرة والجرأة، والاكتفاء بأهل الولاء والإرضاء، ما خلق صدوعاً عميقة في المجتمعات، جعلها تنجرف في مزالق الانقسام، أو الانفلات أو الثورة في أي لحظة.
والسؤال: هل يمكن أن يكون خطاب الملك في ستراسبورغ بمنزلة دعوة مخلصة للدول العربية أيضاً، منفردة ومجتمعة، لتعيد النظر في الأحداث الجارية، وتأخذ دورها في إعادة الاستقرار إلى أوطانها و المنطقة.؟
ذلك ممكن وفي الإطار التالي. أولاً: أن تدرك كل دولة منفردة، وتدرك الدول العربية مجتمعة، بأن الاستقرار لا يعود إلى المنطقة بفعل الخارج فقط، ولكنه يعود عبر جهد وطني في كل دولة، للوصول إلى حالة توافق ومصالحة وتنازلات من جميع الأطراف، عبر التعاون بين الدول.
ثانياً: أن يتداعى قادة سياسيون وفكريون وثقافيون وأحزاب ومنظمات مجتمع مدني في كل بلد، لوضع وثيقة وطنية تقوم على أساس فتح صفحة جديدة، وبدء مرحلة مختلفة تقوم على تداول السلطة والديمقراطية، والمشاركة والمواطنة المتساوية، والتنمية لمواطني الدولة ونسيان الماضي.
ثالثاً: أن تنظر الأنظمة الحاكمة بكل الجدية والإيجابية للوثيقة الوطنية، وتباشر العمل بموجبها قبل فوات الأوان.
إن المستقبل يحمل الكثير من المفاجآت لكافة الدول العربية، ولن تستطيع السيطرة عليها إذا بقي الحال كما هو. ولكن إذا بدأ التغيير من الداخل العربي، فإن الجهود الدولية يمكن أن تثمر.
الشرق الأوسط.. من يصنع الاستقرار؟ / الدكتور ابراهيم بدران
14
المقالة السابقة