عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
بمناسبة رحيل السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله ، فإن موقع “عروبة الإخباري” ينشر سلسلة حلقات عن حياة الراحل ومسيرته الغنية في بناء الدولة العُمانية، والتي استمرت لنصف قرن استطاع فيها أن يضع عُمان على خارطة العالم المتفاعل، وأن يقدمها كنموذج للسلام والتعاون والشراكة في منطقتها ومحيطها العربي وبعدها العالمي.
لقد كان السلطان قائدا عظيما، التف حول جنازته ومشى خلفها قادة من كل دول العالم وبعضهم لم يلتق مع صديقه أو خصمه إلا في جنازة هذا القائد الذي ظلت سياسته تقبل القسمة على الجميع، ويرى فيه الجميع رجل محبة وسلام وعطاء.
الحلقة التاسعة ..شخصية السلطان والشخصية العمانية كلاهما تأثر بالآخر
كان الثامن عشر من تشرين الثاني نوفمبر من العام 1940 على موعد مع سلطنة عمان . فقد أهدى ذلك اليوم للسلطنة قائداً فذاً وابناً باراً لعمان وشعبها هو ثامن سلاطين أسرة البوسعيد وهو الحفيد المنحدر من أبرز سلاطين عمان والمؤسس لدولتها الإمام أحمد بن سعيد الذي ارتبطت باسمه إنجازات كبيرة وأفعال شجاعة وزود عن التراب الوطني العماني والحفاظ عليه .
كان فجر الثامن عشر من نوفمبر مضيئاً ومشرقاً على ظلام ظل مخيماً على السلطنة لسنوات فكان مولد السلطان لحظة تاريخية تحقق وعدها باستلامه السلطة العام 1970 من والده سعيد بن تيمور . ويعدّ السلطان قابوس الأطول حكماً بين القادة العرب ممن هم على قيد الحياة ..
وفي نسبه إنه قابوس بن سعيد بن تيمور بن فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد بن أحمد بن محمد بن خلف بن سعيد بن مبارك البوسعيدي .
الدوسي الأزدي وأسرته من أعرق الأسر الحاكمة في العالم العربي إذ جاء امتداده من مؤسس الدولة العمانية الحديثة الإمام أحمد بن سعيد منذ العام 1744 م .
سجلت الكتب الكثير عن نشأة السلطان وظروف تلك النشأة وعن التأثيرات التي صاحبتها واثرت فيها فقد كان السلطان قابوس الابن الوحيد لأبيه سعيد وقد ولد ونشأ في مدينة صلالة وفيها تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي وأرسله والده بعد الثانوية إلى بريطانيا العام 1958 ليدرس في مدرسة خاصة اسمها سافوك ثم بعد ذلك شأن أولاد القادة والحكام الذين يميلون الى إرسال أولادهم إلى الكليات العسكرية فقد أرسله والده إلى أشهر تلك الكليات في بريطانيا وهي كلية سانت هيرست والتي أمضى فيها عامين هي مدة الدراسة والتدريب وتخرج فيها برتبة ملازم ثاني وأكمل تدريبه في إحدى الكتائب العاملة في ألمانيا الاتحادية لمدة ستة أشهر بقي فيها في مجال العمل العسكري بعدها عاد إلى بريطانيا ليتلقى تدريباً في أساليب الإدارة في الحكومة المحلية هناك حيث أكمل دورات تخصصية في شؤون الإدارة وتنظيم الدولة ، ثم تهيأ له أن قام بجولة حول العالم استغرقت ثلاثة أشهر زار خلالها العديد من دول العالم قبل أن يدخل عاصمة السلطنة مسقط لأول مرة في حياته والتي لم يدخلها إلاّ بعد أن أصبح سلطاناً وقد جاءها من صلالة التي عاد إليها بعد تخرجه ليقيم فيها ست سنوات حيث أصر والده على أن يعكف على دراسة الدين الإسلامي وتاريخ وثقافة عمان وهو ما كان له بالغ الأثر في نفسه كما ذكر السلطان في احدى مقابلاته ودراسته للدين والتاريخ والثقافة العمانية كان لها الأثر في تعلقه بتاريخ بلده وإدراكه لعمق أصالته وقد تكامل لديه الوعي بضرورة أن ينتقل شعبه الذي عانى في فترة حكم والده من مرحلة صعبة ساد فيها التخلف والقسوة وغياب المؤسسات إلى مرحلة النهضة التي انبلج فيها فجر عمان . لقد زاوج السلطان بين العلوم الغربية وخاصة العسكرية التي تلقاها وهي علوم متقدمة وبين الثقافة العربية وتاريخ عمان العريق وكان لهذه المزاوجة أثر كبير في المراحل الأولى من توليه للحكم وإدراكه لأهمية توظيف تلك المعارف في إعادة بناء الدولة العمانية الحديثة وإقامة المؤسسات وإطلاق طاقات الشباب وربط العمانيين بوطنهم وتمكينهم من الاعتزاز به لما يقدمه الوطن لأبنائه وما يقدمه الابناء لوطنهم .
كانت السنوات الست خصبة قرأ فيها السلطان الكثير من الكتب واطلع على فلسفات عديدة وثقافات مختلفة وتجارب سياسية وقارن بين الدول المتقدمة والمتخلفة ورصد أسباب التخلف والعوامل التي تصنعه وتحسس في هذه المرحلة هم شعبه وشكواهم بهدوء ودون أن يلفت الانتباه له إلى أن جاءت لحظة الحقيقة ليقوم بواجبه في خدمة وطنه ويقدم نفسه كمنقذ لهذا الوطن الذي أعطاه دوراً مميزاً مكنه من تحقيق أحلامه والنهوض بشعبه ..
نبت السلطان من جذور تاريخية ضاربة في العراقة والأصالة فكان ابن تاريخ عمان وسليل مجدها وكان عليه وهو يحمل رسالة تاريخية أن يتعرف إلى الجغرافيا العمانية التي حملت امبراطورية نافست امبراطوريات التاريخ الشهيرة .. كان يتوق لاحتضان الجغرافيا العمانية والتعرف إليها فظل ذلك الحلم يراوده منذ وطأت قدماه أرض مسقط ليعلن وحدة الدولة العمانية تحت اسم واحد وعلم جديد واحد وعملة سمّاها الريال العماني وقد أسقط ما عدا ذلك كان التاريخ عنده مضموناً فقد عاشه العمانيون وأدركوا فيه مجدهم وكان توقه أن ينهض بالجغرافيا وأن يسعد الإنسان الذي يعيش عليها وكان السؤال كيف انبتت تلك الجغرافيا العمانية المنوعة والصعبة ذلك التاريخ المجيد وكان الجواب كامن في معرفة السلطان انها الإرادة .. إرادة الشعب العماني التي جسدها قائده الأولى مؤسس الدولة العمانية الحديثة وهي الإرادة التي أعاد بعثها السلطان قابوس في فجر النهضة حين أطلقها ليطلق بها إرادة العمانيين وطاقتهم في بناء بلدهم .
أعرب السلطان منذ اليوم الأول الجملة التاريخية وهي أنه وريث تاريخ مجيد وأعاد زراعة ذلك التاريخ مجدداً ليتجدد في الجغرافيا العمانية التي طرحت أكلها من خلال النهضة وهذا النموذج العماني الذي يعتز به الكثيرون حول العالم .
تأثر السلطان قابوس بالعادات والتقاليد العمانية وتشربها وأدرك أن التغيير الايجابي لايقوم بالانقلاب على كل المكونات وإنما بالتطوير والتغيير والحفاظ على الجيد واجتثاث الفاسد والظالم والمعيق والمتخلف . قرأ كثيراً من السياسات والنظريات أعجب ببعضها وتوافق مع بعضها وتحفظ على أخرى لكنه ظل منفتحاً على الثقافات ومدركاً انها نتاج شعوب لها خصوصياتها وإن رغبت في التعارف والتعامل مع غيرها حين كانت ثقافاتها منفتحة ، لقد تأثر ببعض المفكرين من أصحاب نظريات الحرية تأثره ببعض المفكرين الاسلاميين سواء من التراث أو من مفكري النهضة وتتبع دعواتهم وما كتبوه يستنهضون أمتهم .. كان منذ السنة الأولى للنهضة يرى نفسه منذوراً لأشياء كثيرة وجديدة وطنية وإنسانية .. ورغم انشغاله منذ اول سنة من سلطاته بالقتال والدفاع عن هوية العمانيين وثقافتهم وتاريخهم وجغرافيتهم ودولتهم إلاّ أنه كان يجد أن تعبيره عن نفسه هو في خدمة التنمية والاستقرار وبناء السلام لذلك كان دائماً يستعجل الوصول إلى تلك الأهداف ويقصر الزمن الذي يسبقها ومن هنا كان حرصه على الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الجميع سواء في الجوار أو عبر العالم ومن هنا أيضاً كانت رغبته العارمة في تصفير خلافات عمان الموروثة والناشئة ليتسنى له الإقلاع بها نحو الأهداف التي ظل يؤمن بها وأبرزها إسعاد الإنسان العماني الذي هو صانع التنمية وهدفها في نفس الوقت وقد انعكس ذلك في سلوك السلطان وخطواته باتجاه تسوية مشاكل الحدود مع جيرانه حتى لا تعيقه لاحقاً المشاكل الناجمة عن تحقيق اهدافه التي رسمها لبلده .
حبه لتاريخ بلده ظل يجسده في دعوة العمانيين للإمساك بوحدتهم التي تحفظ تاريخهم وتعلمهم من تاريخهم الذي ظل يكرس وحدتهم وارادتهم ويسجل امجادهم وقد انعكس حبه لتاريخ عمان في دعوته المثمرة للأجيال العمانية الطالعة ومنذ اليوم الأول قبل 44 سنة لتأكيد الثقافة العمانية والفنون العمانية التقليدية والمهن العمانية والروح العمانية في التسامح والعطاء والمودة والنخوة والعمل والمغامرة وفي الطلب من الأجيال الطالعة أن لا تفك ارتباطها بتاريخها وأن تبقى منسابة من خلاله إلى المستقبل تواصل البناء وتكتب سطوراً إضافية في سجلات تاريخها من خلال الإنجاز .
دعى إلى المحافظة على أشكال من الاقتصاد القديم ومكوناته وإلى المحافظة على المكونات البيئة العمانية والآثار التي جسدها التاريخ في القلاع والحصون والسيح وإلى عشق الصحراء والصيد والخيل وإلى روح الكشافة والسابلة وإلى إحياء القديم النافع والدفاع عنه في الإبداع العماني في الثقافة والترفيه والعمارة التي ظل السلطان قابوس يعشقها ويبدي رأيه فيها ويرى أن العمارة العمانية روح وليست مجرد جسد وثقافة وليس مجرد بناء ورسالة للعمانيين والعالم
لابد أن تستمر وتدافع عن نفسها ..
ظلت الهوية العمانية واضحة وملموسة لأن السلطان حرص على إحيائها وتجسيدها وتحديثها دون ان تفك ارتباطها بالماضي ودون ان ترتهن اليه وانما تتواصل معه وتنفتح على العالم ولذا فإنه خصص كراسي سلطانية عبر الجامعات الشهيرة والمعروفة في العالم لخدمة الثقافة العمانية وروحها وشراكتها واحياء مكوناتها الاسلامية والعربية كما خصص الجوائز للمثابرة والبناء والاصالة والبيئة العمانية والدفاع عنها ..
أما عشقه للجغرافيا العمانية والمكان العماني فقد عبر عنه بوضوح شديد وإشارات واضحة بهذه الزيارات السلطانية العديدة والمتكررة منذ تسلمه سلطاته وهي الزيارات التي عشق فيها الجغرافيا وسخرها لخدمة الانسان العماني ، فكان يلتقيه في النجوع والبوادي والصحراء وفي السيح وحيث تدب قدم العمانيين وتنتشر حضارتهم .
كانت زيارات السلطان قابوس لأرجاء عمان الأربعة وتجواله في وديانها وجبالها وصحرائها وبحرها هي أوراق اعتماده في محبة الجغرافيا العمانية التي ذلل قسوتها ولين طبيعتها بالمشاريع والاستثمارات وبناء الحياة بتوصيل المياه وشق الطرق وبناء المدارس والمراكز الصحية في الأماكن البعيدة وكذلك إيصال الكهرباء والهاتف وغيرها .
مرتبطا بالتاريخ ومحبا للجغرافيا وآخذاً بيد الإنسان العماني ومتطلعاً للشراكة في الحضارة الإنسانية بني السلطان قابوس زياراته السنوية التي تحولت في مضمونها بلقاء المواطنين إلى برلمان مفتوح بلا جدران ، وتنقل وإلى ديمقراطية مباشرة لا تعرف الحواجز ولا البيروقراطية يجالس العمانيين ويستمع لشكواهم ويرى قسمات وجوههم التي تعكس الفرح أو الشكوى أو الألم ويرد على صاحب الحاجة ويغيث الملهوف ، ويوصل الساعي ويبني للأرملة والمحتاج ويحرص على توفير حاجاته على إقامة المشاريع الضخمة في برلمان الوجه للوجه والعين تنظر للعين استطاع السلطان قابوس أن يحصد حب شعبه وتقدير شعبه وأن يبادل هذا الشعب حبا بحب ومودة بمودة .
ظاهرة الزيارات السلطانية فريدة في الديمقراطيات المعاصرة وفي سلوكيات الحكام المعاصرين في كل دول العالم وهي زيارات ليست خاطفة ليوم أو يومين وليست لرفع العتب أو التقاط الصور أو إلقاء الخطابات أو تمضية الوقت في الصيد والرحلات هي ملاقاة من السلطان قابوس لشعبه حيث يقيم مواطنوه بعيداً عن العاصمة في زراعتهم ورعيهم وتجمعاتهم ، وهو ينتقل اليهم ليعيش ظروفهم ويحس بها وهم يقصدونه الى مخيمه ليسمع لهم ويستمعوا لتوجيهاته ورأيه ويروا كيف يحاسب المسؤولين على اختلاف درجاتهم ومواقعهم ويجعلهم أنداداً مع من يحاورهم من عامة الناس سواء أكان المحاور رجلاً أم امرأة أم شيخاً طاعناً في السن أم صبياً يافع ..
وإذا كنت تابعت هذه الزيارات وراجعت ما كتب عنها وتميّز كل واحدة عن الأخرى بالمكان والاضافة التي تتعلق بفكرة أو مشروع فإنني رأيت فيها الديمقراطية الحقيقية التي يريدها الإنسان العربي في هذه الدرجة من تطوره وهي الأقرب إليه وإلى نفسه ومصالحه من كل الأشكال الأخرى فالغاية من الديمقراطية بغض النظر عن نظرياتها المختلفة في الشرق والغرب أو في القديم والحديث هي المشاركة والمساءلة وهو ما توفره اللقاءات السلطانية المدهشة التي أرجو أن يجري وضعها في دراسات وتعميمها ليدرك الكثيرون حول العالم أن الوصول إلى الانسان وإقناعه وتفاعله وكسبه وتمكينه من المشاركة والعيش الطيب لا يتم باسلوب واحد جاهز ففي الديمقراطيات الغربية حين نستوردها الكثير من العوائق والعقبات والموانع الثقافية والمعرفية والاجرامية ، ورغم ذلك فإن الأخذ باشكالها في سلطنة قائم في المؤسسات الشورية ومجلس عمان والمجالس البلدية وفي صناديق الاقتراع والانتخابات لكن ذلك كله على نفعه يجري تجسيد ما يمكن السلطان قابوس من معرفة شعبه واعراب شعبه عن حبه له من خلال الزيارات السنوية المتكررة والتي لم يبطلها السلطان أو يؤجلها أو يبدلها بغيرها ..
انها مهرجانات واسعة للتنمية والبناء والاستقرار وحوارات عميقة في الانتماء واحتفاء بالثقافة والفن والشعر والتراث ومبارزة في القول والإبداع وفرح اللقاء فهذه الخيم الممتدة وطرق الحوار المفتوحة والمقابلات التي لا تعرف الحواجز والتي تدور في الهواء الطلق انما تعلن تفرد التجربة العمانية وتعكس تحضر العمانيين الذين عرفوا الاستقرار والحضارة والعمارة والبناء وصناعة الأساطيل والتجارة ، وربطوا اسمهم بالحضارات القديمة كعناوين حين انخرطوا في تجارة العالم القديم وفتحوا خطوط البر والبحر وزرعوا اللبان وحملوه إلى العالم ليطيب المعابد والبيوت والكنائس ويطرد الشر ويقيم الألفة ، كما أنهم أي العمانيين كانوا المهرة في إيصال إنتاجهم وإنتاج غيرهم حين ربطوا آسيا بأوروبا عبر عمان بالبحر وحتى عبر الصحراء وقد سجلت رحلاتهم البعيدة حين وصلوا أميركا في وقت مبكر وحين لفوا حول رأس الرجاء الصالح وحطت سفنهم في موانىء اقريقيا قبل أن يحكموا شرق القارة ويرفعوا راية الاسلام فيها .
إذن عشق السلطان قابوس للتاريخ لا يوازيه إلاّ حبه للجغرافيا العمانية ومحضها وقته ومشاهداته وعيشه في تفاصيلها ولا يفوق ذلك إلاّ حرصه على الإنسان العماني الذي يخرج سنويا للقائه دون أن يجعل بينه وبين مواطنيه العاديين حجاباً .
فالموظف العماني باقٍ في موقعه إلى أن يشكى منه ، فإن شكى جرى إبعاده والاستغناء عنه فالأصل هو رضا المواطن إذ لا مكان للتعسف أو الاستبداد أو التكبر أو الابتزاز .
من كتاب سلطنة وسلطان .. أمة وقائد السلطان قابوس بن سعيد / المؤلف سلطان الحطاب
يتبع الحلقة العاشرة ..