عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
بمناسبة رحيل السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله ، فإن موقع “عروبة الإخباري” ينشر سلسلة حلقات عن حياة الراحل ومسيرته الغنية في بناء الدولة العُمانية، والتي استمرت لنصف قرن استطاع فيها أن يضع عُمان على خارطة العالم المتفاعل، وأن يقدمها كنموذج للسلام والتعاون والشراكة في منطقتها ومحيطها العربي وبعدها العالمي.
لقد كان السلطان قائدا عظيما، التف حول جنازته ومشى خلفها قادة من كل دول العالم وبعضهم لم يلتق مع صديقه أو خصمه إلا في جنازة هذا القائد الذي ظلت سياسته تقبل القسمة على الجميع، ويرى فيه الجميع رجل محبة وسلام وعطاء.
الحلقة السادسة .. المكتوب يقرأ من عنوانه
لقد اتسمت مواقف السلطان وسياساته بالثبات والصبر وتراكم الخبرة، ولم تنقلب عمان على سياساتها حتى وان لم تؤت تلك السياسات أكلها او وجهت بموجات النقد، وفي هذا السياق على سبيل المثال يقول وزير الدولة للشؤون الخارجية يوسف بن علوي مستشهداً بأن الموقف العماني من الصراع الداخلي في سوريا لم يتغير منذ اليوم الأول وثبت الان صحته حين الحاجة الى المصالحة والحل السياسي في سوريا، وقد ربط الوزير كلامه هذا بقوله : حتى في العملية السلمية في الصراع العربي الاسرائيلي لم يتغير موقفنا من دعم العملية السلمية قبل كامب ديفيد وبعدها . كان هناك من يعارض ومن غير موقفه . لكننا واصلنا موقفنا بثبات الى ان شهد الجميع مؤتمر مدريد، فوجدناهم وقد سبقوا ..
وبالموازاة لم يتغير موقف السلطنة من مصر حتى بعد قتل السادات ورحيله وما قام من علاقات حميمية بينه وبين السلطان ولا تغيرت علاقات سلطنة عمان مع ايران حتى بعد رحيل الشاه وقيام الثورة الايرانية وقدوم الخميني، فالعلاقات مع السلطنة لا تحكمها المشاعر الشخصية ولا المصالح الضيقة، بل تبقى تتحايل مع المصلحة العامة وكل ما هو ثابت ومفيد وهذا ما انسحب ايضاً في التعامل ما بين السلطنة والهند اذ لا تؤثر الفوارق الدينية والمذهبية والعرقية والاختلاف الثقافي على عمق هذه العلاقات وتميزها . وحتى مع العراق منذ زمن صدام الى ما يعد حكمه والى اليوم ولم تشهد انقطاعاً ولم تغلق السفارة أو ينسحب السفير الاّ ما كان من فترات اضطراب فيها الامن، وهذه المسطرة من التعامل تتم مع كل الدول العربية والعالمية.
فروح السلطان وتوجهاته وثقافته ذات طابع حضاري انساني غير تعصبي يحتفي بالحضارة البشرية في كل تجلياتها ويعظم منها الاسمى وهو من الموسيقى الذي يعتلي اللغات ويسموعليها ويعبر الحدود ولا يتوقف .. ان السياسة العمانية في انسيابها ومرونتها أشبه بالمقطوعة الموسيقية العالمية التي تترك الاستمتاع بها يشمل الوانا مختلفة من الثقافات وحتى في خضم تبدل الانظمة القريبة من سلطنة عمان والمؤثرة عليها كالنظام في العراق أو في ايران الاكثر تأثيراً، فان السلطان لا يلبث ان يعيد التفكير في موضعة هذه العلاقة واعادة تمكينها وليس قطعها أو الضغط بها أو من خلالها واعادة تأهيلها بسرعة لتكون فاعلة، وهذا ما اثبتته علاقات السلطنة مع ايران حتى بعد رحيل الشاه، فقد قامت الوساطة العمانية لدى ايران زمن الرئيس الاميركي كارتر للافراج عن الدبلوماسيين الاميركيين الذين وقعوا رهائن في طهران، ولكن تلك الوساطة لم تنجح فكانت العملية اليائسة العسكرية التي فشلت في انقاذهم، وفي العام 1987 كان السلطان قابوس اقترح اجراء مفاوضات في مسقط بين صدام حسين وهاشمي رفسنجاني ولم يتم اللقاء لوقوع شغب قوى عليه من اطراف مختلفة الاّ ان جهود السلطان فتحت كوة في الجدار وساعدت على الاسراع في الوصول الى هدفه في الحرب التي استمرت ثماني سنوات وذلك بعد اقل من سنة من المجادلة العمانية .
وكانت نصائح السلطان قابوس لدول الخليج كافة ان تخفف عداءها لايران وان تخفف من دعمها للعراق لم تلق اذن صاغية فاستدار من دعمته ليحقق احتلال الكويت، وعندها ادركت ان سياساتها تتخبط حين كان البديل هو في الاستعانة بقوات اجنبية لمعاقبة النظام العراقي وهذه الاستعانة ورفع الاعلام الاجنبية على السفن العربية استفزت السلطان قابوس الذي حذر من ذلك، ولو استجابت انظمة الخليج لما اقترحه السلطان عليها بداية لما وصلت الأمور الى ما وصلت اليه، فقد اثبتت الوقائع ان سياسة سلطنة عمان ومهندسها السلطان قابوس كانت عملية وواقعية ورشيدة واكثر ثباتا ونفعا من الاختباء وراء الشعارات والتسميات الفضفاضة التي لا تصمد، والتي لم تحدم الامن الوطني ولا الاستقلال الذاتي أو السياق الوطنية لتلك الدول التي امعنت في مناصرة طرف ضد آخر .
أما قصة التعاون العربي الخليجي على مستوى الاقليم فلها شأن آخر ورواية أخرى، فقد اطلق السلطان الفكرة التي لم تخرج كما اراد ولكنه ظل يمسك بجوهرها ويحرص على ان تفرز ثمرة الدفاع عن المنطقة المعنية بالمجلس ومصالح أهلها ..
وهذه الرواية كما يلي ..
كان طبيخ دول الخليج الذي وضعه على النار مبكراً منذ تأسيس المجلس لم ينضج، الى ان كان اللقاء في مسقط وقد كنت حضرته كرئيس تحرير صحيفة يومية اردنية لأغطي وقائعه .. كان فندق البستان الذي اقام فيه الرؤساء والملوك انجز لتوه وكان فخماً جداً بمقاييس تلك اللحظة من العام 1985 . كان السلطان قابوس يومها وفي كلمته التي حملتها وعلقت عليها اعرب الجملة الخليجية ونبه من المخاطر التي تواجه الخليج وضرورة الاستعداد لصدها.. وكانت له يومها رؤية استشرافية لم يدركها الكثيرون، فقد كان الوقت مبكراً لتنبأ الكثيرون من القادة على ما سيحدث بعد انتهاء الحرب العراقية الايرانية التي انعقد الاجتماع في ظلها ،وان هذه الحرب ستلد اخرى وان ضرب ايران بمساعدة الغرب للعراق سيتحول الى ضرب العراق عن طريق الغرب مباشرة والاستعانة بالعرب انفسهم الذين ساعدوا النظام العراقي في ضرب ايران .
كان السلطان قابوس اضفى على حوارات المجلس وقراراته السابقة بعداً اصيلاً وهو دوره الامني والعسكري المستقبلي ليكون قادراً على الدفاع عن دول الخليج ومصالحها، ولكن المماطلة اثبتت العجز اللاحق الذي تحدث عنه الامير خالد بن سلطان قائد القوات المشتركة للحلفاء العام 1991 في مذكراته حين قال : علمتنا الازمة ان الدفاعات الخليجية بالشكل الذي كانت عليه العام 1990 كانت غير كافية لمواجهة صدام حسين، لم تكن قوات درع الجزيرة قوية بالقدر الذي يمكنها من ردع العراق أو التصدي له بمفردها ،من هنا تأتي اهمية اعادة النظر في الترتيبات الدفاعية الجماعية وهذا القول المتأخر كان دعا الى مضمونه السلطان قابوس قبل ان يتحول العراق من حليف لدول المجلس في حربه مع ايران الى عدو لها بانقضاضه على الكويت .. ولكن لم يسمع أحد تحذيرات السلطان ولم يؤخذ برؤيته وقتها ..
ومع كل الذي حدث بهزيمة العراق وحصاره وبدء العقوبات على شعبه كانت سلطنة عمان بتوجيه من السلطان قابوس أول من دعى الى فك الحصار الأعمى عن العراق ورفع العقوبات عنه لانه تصيب شعبه وليس حاكمه . وقد عمل السلطان على نزع فتيل الكراهية من دول المجلس ازاء العراق حتى لا تتفاقم المشكلة وحين رأى اعضاء المجلس النتائج انتخبوا السلطان قابوس بن سعيد رئيسا للجنة العليا لشؤون أمن الخليج في اطار بناء القوات المشتركة اعترافاً منهم بصواب رؤيته العام 1987 في دورة مسقط الخليجية …
وعي السلطان قابوس ومرونة سياسته البراجماتية وحصادها المتراكم وان بدا بطيئاً كان دائماً محط الاعجاب ، فهذا القائد أبعد سياساته ودبلوماسية نظامه عن الايدولوجيا والتصلب وابقاء العدو عدواً بل مارس الاحتواء وحدد أهداف السياسة الخارجية العمانية في معالمها الرئيسة والتي مازالت قائمة حتى الان ..
لقد كنت احاول فهماً اعمق للسياسة الخارجية العمانية فكانت الاجابة العمانية ان السلطان قابوس بن سعيد هو مؤسس هذه المدرسة الجديدة في العلاقات الدولية المعاصرة ، وهي مبنية على مبدأ يرى ان العالم يسير باتجاه التعاون المتعدد الاطراف وان الحدود والاطارات التقليدية في طريقها للزوال، وهذا ما اكده السلطان في حديثه لمجلة ميدل ايست (1995) شهر تشرين الثاني ” ان العالم يتضاءل وينكمش وانا واثق ان جميع البلدان يجب ان تسير وفق هذه القاعدة وتحاول ان تفهم بعضها البعض وتتعاون فيما بينها ..
وقد لاحظت في السنوات الاخيرة ( والقول للسلطان ) بوادر تدل على ان النزاعات بين الدول صارت تعدّ من الحماقات المطبقة وان الخلافات بين البلدان يجب ان تحل بالمفاوضات وليس بالعنف ” ..
وهكذا ظل السلطان وعبر نصف قرن يؤمن دائماً ان الحوار هو المدخل الحقيقي لضمان المصالح.. وهذه الرؤية تصدق الان اكثر من اي وقت مضى، حين لم يكن يراها الاّ قائد بعمق رؤية السلطان ..
وفي هذا السياق كان العالم المتقدم والمتحضر والذي كان يقرأ رؤية السلطان ويقدرها بادر الى تكريمه بجائزة السلام التي منحت له العام 1998 جرى التعبير فيها وعن طريقها لمساهمته العظيمة في الممارسات السياسية المعاصرة ، ودوره في احلال السلام والاستقرار في اكثر مناطق العالم اضطراباً .
من كتاب سلطنة وسلطان .. أمة وقائد السلطان قابوس بن سعيد / المؤلف سلطان الحطاب
يتبع الحلقة السابعة..