عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
بمناسبة رحيل السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله ، فإن موقع “عروبة الإخباري” ينشر سلسلة حلقات عن حياة الراحل ومسيرته الغنية في بناء الدولة العُمانية، والتي استمرت لنصف قرن استطاع فيها أن يضع عُمان على خارطة العالم المتفاعل، وأن يقدمها كنموذج للسلام والتعاون والشراكة في منطقتها ومحيطها العربي وبعدها العالمي.
لقد كان السلطان قائدا عظيما، التف حول جنازته ومشى خلفها قادة من كل دول العالم وبعضهم لم يلتق مع صديقه أو خصمه إلا في جنازة هذا القائد الذي ظلت سياسته تقبل القسمة على الجميع، ويرى فيه الجميع رجل محبة وسلام وعطاء.
الحلقة الأولى .. ومن هنا تبدأ الحكاية
لم تبدأ النهضة العمانية المعاصرة ببيان رقم واحد اي بيان الاذاعة والعسكر وانما ببلاغ من فم صاحبه الذي لم يكن على دبابة ولكنه كان على وعد مع التاريخ ، ومع فجر جديد ينهي ظلام عمان والعمانيين فقد طلع بدرهم فجأة مكتملاً بعد ولادة ، عسيرة ويأتي صوته هادراً : ” إني أعدكم أن أول ما أفرضه على نفسي أن أبدأ بأسرع ما يمكن لأجعل الحكومة عصرية ، وأول هدفي أن أزيل الأوامر غير الضرورية التي ترزحون تحت وطأتها وسأعمل بأسرع ما يمكن لتعيشوا سعداء لمستقبل أفضل وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب ” . كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة وإن عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى وستكون لنا المكانة المرموقة في العالم العربي”
كان ذلك في يوليو العام 1970 فماذا بعد نصف قرن من رحلة الألف ميل التي بدأت من العاصمة مسقط التي يدخلها السلطان الجديد لأول مرة وتكتحل عيونها برؤيته ..
ما بين البداية واليوم مسيرة بعث عمان الجديدة ، مسيرة النهضة والإنجازات الكبيرة المعجزة التي أخرجت عمان من الظلمات إلى النور .
وإذا كنا نكتب عن عمان الحديثة الطالعة وهي تجذب انتباه العالم وتشد المراقبين لدورها وسلوكها ودبلوماسيتها المتفردة فإننا نكتب عن السلطان . سلطانها قابوس بن سعيد ليس كرجل دولة فقط وإنما كرمز وقائد وباعث هذه النهضة ، فالكتابة عن عمان الحديثة هي كتابة عن السلطان قابوس ، والكتابة عن السلطان هي كتابة عن عمان وهذا ليس من قبيل المبالغة أو ربط البلدان بالزعيم كما في كثير من البلدان ، وخاصة في العالم الشمولي الذي انتهى إلى حد كبير أو العالم الثالث الذي نحن جزء منه ولكن لأن هذا القائد صنع بلداً بالفعل ، وقدم نموذجاً عز نظيره قد لا نأتي بجديد ونحن نتكلم عن السلطنة من خلال السلطان ، أو عن السلطان من خلال إنجازاته وشعبه بعد أن أطلق طاقات هذا الشعب ومكّنه من التعرف إلى مصالحه وكيف يحميها ويدافع عنها ، ولكن جديدنا في التذكير والإفصاح والإبانة لما تحقق على أرض عمان من بعث ولما تراكم من إنجاز .
نقتفي آثار ووقائع نصف قرن من حياة السلطنة التي ولدت من جديد يوم جاءها من رحم السلالة التي صنعت الامبراطورية والاستقلال ونضع المعالم في السطور في سردٍ أقرب إلى صور الكاميرا ، وفي محطاتٍ يجري التوقف عندها وفيها .
لقد خرجت عمان من رحم المعاناة ونهضت كالعنقاء من الرماد معتمدة على جذورها التاريخية الضاربة في العمل ، وقد انتشلها ابن بار جاء من رحم سلالة حكمت لقرون فكان باراً بالتاريخ ووفياً للجغرافيا التي ظل يتلمسها بجسده في رحلات سنوية لم تنقطع وكأنه يعيد قول البحتري في تلمس إيوان كسرى متذكراً تاريخ أجداده وخاصة أحمد بن سعيد الذي انتخب إماماً العام 1744
يغتلي فيهم ارتيابي حتى تتقرّاهم يداي بلمس
مبعوث التاريخ لصناعة المستقبل يعقد عهداً مع الجغرافيا العمانية أن يحييها وأن يكسوها حضارة معاصرة تخرج بها للناس كافة وأن تشارك في البناء الإنساني الذي آمن به السلطان قابوس كشريك لهذه الحضارة وحريص على ديمومتها وتطورها واستقرارها .
عمان التي يتربع على عرشها السلطان قابوس مازالت تشمخ بالإنجاز وتقدم أوراق اعتمادها للعالم ، باعتبارها وريثة تاريخ لم تنتسب إليه وتزدهر به فقط وإنما تريد أن تقول للعالم ” هاأنذا ” وليس ما كان عليه أجدادي ، وهو الأمر الذي مكنها السلطان منه في أن تجمع بين الأصالة والمعاصرة في صيغة قل نظيرها .
لم أجالس السلطان قابوس ولم أتحدث إليه ولكني قرأت مع خطبه السامية وتحدثت خطبه لي كما أي مستمع أو قارىء توقف عند إيقاع السلطان فيها ، ونبض قلبه بكلماتها وصدق لسانه في لفظ كل مفردة فيها ، وما تعنيه كل كلمة من إحساس بالمسؤولية ووفاء بالوعد .
سأتخذ من خطبه التي عكفت على قراءتها دليلاً وبوصلة محاولاً إعراب جملها وربطها بالأحداث التي جاءت هذه الخطب لتفسيرها أو تتنبأ بها ، أو تسبغ عليها الشرعية أو تجعل من الكلمة بناء ليسكنه الفعل .
وإذا كان الكلام العربي الرسمي كثيراً ولم يحمل دلالاته لدرجة أنه أصبح رطانة أو لغواً أو ضجيجاً أو غثاءً كغثاء السيل لا يصمد المصنوع منه في الليل ليخرج عليه النهار ، فإن كلام باني عمان مختلف فخطبه كانت تحمل الوصفة والدواء الذي كان حريصاً ان يصرفه بعد أن يكتبه وأن يراقب أثره في شعبه وعلى من يقصده الكلام ، وكان يرى كيف تخرج عمان من وهدتها وتقتحم الحواجز الغليظة وترفع عن عيونها ما أسدل عليها من ستائر وما ألحق بها من غشاوة لتبصر واقعها وتستشرف غدها .
كان كلام السلطان قابوس من لحظة الوعد الأولى العام 1970 إلى تجليات اللحظة القادمة وإلى مسيرة صاعدة كلاماً واحداً لا وجوهاً متعددة له ، كان جملاً معربة غير معترضة مصروفة لم تعرف عدم الصرف ، كان فيها ومعها “الرائد الذي لا يكذب أهله “.. كان يخاف الكلمة حين يقولها ليعنيها ، وكانت الكلمة تخافه حين كان يخذلها غيره ، ولذا كانت كلماته أوامر عند العمانيين ، وفعلاً قابلاً للتحقيق ، كانت لباساً لآمالهم وتطلعاتهم .. لباساً بالقياس غير ضيق ولا فضفاض يستشهدون بها ويركنون إليها ويعدّونها نصوصاً ووثائق ودستوراً يلتزمونه يعرفون به حقوقهم من واجباتهم ويسترشدون بها وهم من اعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله منذ آمنوا بمحمد (ص) قبل أن يروه واستقبلوا موفدين ودفعوا الزكاة وأقاموا الصلاة وأموا الحج ورفعوا راية الإسلام صافية بلا عنف أو شطط يوم اختاروا الإباضية من بين مذاهبهم محكمة وحاكمة واستظلوا بمذهبها .
النقي الذي حصنهم من موجات التطرف ومن هبوب رياح السموم القادمة من الصحراء والتي اقتلعت نواميس وطبائع ومراقد وأضرحة ولم تحترم الاجتهاد والتحضر بل جففت التفكير وصبغت رؤيتها الإسلام بالقسوة والتكفير .
نعم حصنت الإباضية العمانيين وحمتهم من التطرف حين أخذت بالشورى والانتخاب ومواصفات الإمامة البسيطة والعادلة وحين أقامت في حكامها علم الجرح والتعديل وقول الحق ونصح الامام.
من كتاب سلطنة وسلطان .. أمة وقائد قابوس بن سعيد/ المؤلف سلطان الحطاب
يتبع غدا الحلقة الثانية ..