عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
بعد أن سلمت عليه و أخذت مقعدي و نظرت إليه يبتسم تساءلت، من أين لهذا الرجل كل هذا الصبر والهدوء والقدرة على الاستماع، واتخاذ القرار دون بطء؟ وكيف له أن يتفوق على كل القيادات التي سبقته في القدرة على ضبط النفس والتأني والتحليل، وتفويت الفرصة على العدو.
لو كان الرئيس عباس مسؤولا عام 2000، لما كانت الانتفاضة المسلحة التي أودت بكل مكاسب أوسلو، وأعادت الحالة الفلسطينية إلى الصفر، ليس لأن الرئيس لا يؤمن بحق شعبه في الاستقلال والحرية والكفاح بكل اشكاله، ولكنه يؤمن بمواسم العمل، ويدرك تماما ما أدركه “لينين” حين قال: “أمس متأخر وغداً مبكر واليوم هو الموعد”.
أدرك أبو مازن طبيعة الصراع وعرف أكثر من غيره ما هي الحركة الصهيونية، وما هي طبائعها وفكرها وفلسفتها ومخططاتها، بل وكتب في ذلك وبين علاقتها بالحركات السياسية المعاصرة لها، أو اللاحقة عليها كالنازية والفاشية وغيرها، وكيف كانت هذه الحركة وحتى من قبل أن تقوم وحين كانت افكاراً في ذهن الآباء الصهيونيين أو من مهد لفكرهم حريصة على تحالفات مع القوى الاستعمارية النافذة، وفي تلك المراحل فتحالف اليهود مع نابليون حين وجه نداءه الى يهود المغرب، (أن تعالوا إلى وطنكم “فلسطين”) بعد أن أعياه حصار عكا وتحالفوا مع “غليوم الثاني” امبراطور المانيا الذي زار فلسطين، كما تحالفوا مع بريطانيا التي منحتهم “وعد بلفور” وهاهم الحلفاء الأقرب من خلال إسرائيل مع الإدارة الامريكية الترامبية.
لا يسوق الرئيس أبو مازن شعبه خلف الشعارات، فقد عرف بواقعيته وابتعاده عن المجانية، ولذلك يتوقف مليا عند شعار “عالقدس ماشيين شهداء بالملايين”، ويرى أن الاستشهاد وسيلة لما هو اعز، وليس غاية في ذاته، والمقاوم أو الفدائي يناضل ليعيش ويعيش شعبه بعده وليس لينتحر او يفرغ غضبا.
وعي الرئيس أبو مازن على الحالة الفلسطينية جاء من قراراته التاريخية، ومعايشته وخبرته وصدقه مع نفسه وانسجامه مع افكاره، وهو يرى أن الأمه عمقه النضالي الذي يحمي شعبه، ولكنه يقدر حال الأمة في تمزقها ولا يُحمل دولها ما لا تحتمل، وانما يدعو شعبه الى الاعتماد على النفس وعدم التعويل كثيرا على الآخرين، مهما كان قربهم ،إلاّ بمقدار قدرتهم على الإسناد، ولذا كان اعداده أن يمارس الشعب الفلسطيني أقصى درجات المقاومة السلمية واسعة الانتشار، فهي الطريق التي يمكن ان توصله لأهدافه في الحرية والاستقلال، مهما كانت طويلة وشاقة، فحين انعدمت الوسيلة في الانتفاضة الأولى لتكون الحجر لأن الإرادة توفرت فلم تعدم الوسيلة.
لا يؤمن بالمزايدات ويدرك حجم الفخاخ التي تضعها حماس، ومن رأى رؤيتها في طريق نفاذه الى المجتمع الدولي وفي طريق قدرته على صياغة سياسية لشعبه تنقله من الانقسام، وحين دعا الشعب الفلسطيني لاستكمال بناء مؤسساته، كان حجم المزايدة والاعتراض كبيراً، وقد جرى استعداء قوى عديدة عليه عربية ودولية وفلسطينية، ولكنه بإرادته واصراره نفذ من ذلك ومضى، فكان إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، وإعادة بناء اللجنة التنفيذية للمنظمة، وبقي أن ينجز انتخابات للمجلس التشريعي وقيادة السلطة، وهو يرى الآن كيف تنصب حماس كمائنها حتى عبر ادعاء الموافقة على الانتخابات التشريعية والرئاسية التي ماطلت فيها كثيراً وأجلتها ووضعت في وجهها العراقيل.
حماس حتى هذه اللحظة المقروءة “لم تحلب صافياً ” ،رغم “نعم” التي ترفعها، فهي إما متحرّفة لقتال او متحيزة إلى فئة، وبدل ان تنضوي مع التمثيل القائم للفلسطينيين والممثل في منظمة التحرير الفلسطينية، فإنها تبحث عن أشكال أخرى ومحاولة لابتلاع هذا التمثيل وتدميره وتزييفه دون أن تطرح بديلاً وطنيا.
ما زال نهج حماس يشكل خطورة على الحركة الوطنية الفلسطينية وأهدافها وصيغها، وما زال وإن تستر في كثير من أهدافه يسحب قضية شعبنا إلى المجهول، ويضعها حيث لا يجب أن تكون.
يتحرك أبو مازن الآن باتجاه الداخل حين يريد إعادة ترتيب البيت الفلسطيني لانتخابات تشريعية، وهاهي فتح تعاود الالتفاف حوله بقوة، وهو خيارها وهو الذي يقبل القسمة على جميع أطرافها، رغم ما يصدر من رطانة غير مفهومة في بعض الأحيان تعبر عن نزعات شخصية، وها هي حماس التي رهنت وماطلت و لعبت دور الكابح للمقاومة في غزة، وتقمصت هذا الدور ضد الجهاد الاسلامي، تفقد صفتها وصبغتها التي انطلت طويلا ،وثًبتَ أنها تبحث عن سلطة وأنها تجري حوارات عديدة من تحت الطاولة ومن السراديب العديدة، وعبر وسائل اقليمية وتحالفات مشبوهة مع الامريكيين والإسرائيليين، وآخر هذه الظواهر قبول بناء مستشفى أمريكي على أرض غزة، وهو في الحقيقة قاعدة تجسس مريبة.
ولكن فتاوى قيادات حماس جاهزة، وهي تحت الطلب تُحرّم متى تشاء وتُحلل متى تشاء، ووسيلتها في ذلك قمع شعبنا الذي أعياه الاحتلال وأفقده الكثير من قدراته، حين لم توظف حماس طاقات شعبنا النضالية في غزة بل أنها باعت انتفاضته السلمية ومظاهراته على الحدود مع الاحتلال بوقفها أخيرا بشكل مفاجئ بثمن ما زال مخفيا وهو برسم المساومة، ولم تجب قيادات حماس عن العديد من الاسئلة وراء ذلك وراحت تُحمل كل شيء للاحتلال دون ان تتوقف عند الكثير من قراراتها التي أوصلت غزة إلى ما وصلت إليه، بإسم شعارات لم تعد حماس نفسها تأخذ بها إلا في الخطب والمزايدات.
ليس صحيحا أن الرئيس عباس صعد على الشجرة السياسية، ولم يستطع القدرة على النزول، فهو لا يريد الخوض في صفقات مشبوهة، فالولايات المتحدة هي التي عُزلت الآن نتاج مواقفها إذ أنها لم تعد وسيطا يصلح ولابد من كسر احتكارها القضية الفلسطينية لصالح إسرائيل، وتمكين دول العالم عبر مؤتمر دولي من المساهمة في حل أو إيجاد حل….
نعرف المسيرة الصعبة التي خاضها أبو مازن من أجل الإعتراف بالدولة الفلسطينية، ونستحضر كل العقبات والمواقف الأمريكية والدولية وحتى العربية التي وضعت في وجهه بداية حتى لا يذهب إلى الأمم المتحدة لتوليد الدولة الفلسطينية، ومع كل تلك العقبات أوصل فلسطين إلى شرفة الإعتراف وإلى تجسيد الدولة، وهاهو يمضي وسط القبض على جمر المعاناة والضغوط والابتزاز الذي تساهم فيه حماس بأشكال مختلفة.
ورغم كل شيء يستطيع الرئيس أن يشكر دولة قطر لمساهمتها في توفير فرص لمساعدة الشعب الفلسطيني بأكثر من 300 مليون دولار، رغم أن قطر ولمواقف خاصة بها ما زالت تدعم حماس… وقد إستطاع أبو مازن ايضا رغم كل الشغب الإعلامي المدسوس أن يحافظ على علاقات أخوية ومتماسكة مع المملكة العربية السعودية رغم التناقض القطري السعودي، وأن يمضي بهذه العلاقة بعيدا عن التجاذبات العربية وبأسلوب أقرب إلى الجراح الماهر….
والرئيس حين يدعو للماء فإنه لا يقول: “اذا مت ظمآنا فلا نزل القطر” … بل يقول: ” فليعم القطر كل أرض العرب” …. وفي هذا السياق بذل الرئيس عباس جهودا ملموسة لتطوير وتحسين العلاقات الأردنية القطرية، ورأى أن تقويتها فيه مصلحة فلسطينية شأن تقوية أي علاقات عربية- عربية…
لقد مدت قطر يدها للخبرات الفلسطينية وخاصة المعلمين وطلبت المزيد منهم ، وثمنت خبراتهم وإخلاصهم ودورهم…
كيف لا وأبو مازن نموذج في ذلك وعلى ذلك حين كان مدرساً في قطر ورئيس بعثة إختيار المعلمين لها وهو موقع ثقة بإستمرار…
لقد ظلت الأردن ومصر بالنسبة له خطاً أحمر، لا يجوز مسه مهما كانت الضغوط والأوضاع، ورأى في الأردن رئة شعبه التي يتنفس، وفي مصر بوابة فلسطين التي لا يجوز أن تغلق أو يذر منها الغبار….
كنت أستمع لذلك في كلمات الرئيس ابو مازن التوجيهية أمام قادة الحركة الكشفية العربية الذين استقبلهم في مكتبه وقد حملوه تحيات شعوبهم إليه و وقوفهم المستمر إلى دعم الشعب الفلسطيني وقضيته…
لقد كان المؤتمر الكشفي الأول للحركة الكشفية الفلسطينية، مناسبة وطنية هامة انعقدت في رام الله في قاعة القائد الراحل أحمد الشقيري …ومباركة من الرئيس محمود عباس، وأعداد وإنجاز ملموس من اللواء جبريل الرجوب باعث الرياضة الفلسطينية المعاصرة ومعيد الألق إليها، بعد انقطاعات وتهميش وطمس، فقد ذكّرنا في لقاء الرئيس أن الحركة الكشفية الفلسطينية بدأت قبل 106 سنوات، أي في عام 1912 ، وأنها تعود الآن قوية قائدة في اقليمها و مع أشقائها العرب ليتقدم العلم الفلسطيني الصفوف ويسهم الفلسطينيون في تقديم خبراتهم وقدراتهم…
الكشافه كما قال الرجوب أمام الرئيس، عنصر توحيد لكل الفلسطينيين على اختلاف مواقفهم وعقائدهم السياسية والدينية في الوطن… في الضفة وغزة والقدس وفي الشتات….
لقد أحسست بنشوة عميقة وأنا أتابع أشبال فلسطين وزهرات فلسطين في احتفالاتهم من خلال الحركة الكشفية الفلسطينية التي أبهرتني بتنظيمها وإقبال الشباب عليها….
فقد كنت اصفق لكلمة اللواء جبريل الرجوب المؤثرة، وهو يحيي بإسم الرئيس أبو مازن حضور صديقي عبد الحي المجالي الإحتفال…
أعود لأقول أن القضية الفلسطينية التي هي أحوج ما تكون اليوم لرص الصفوف وتجميد كل الخلافات ودحرها قادرة بقيادة الرئيس محمود عباس أن تتجاوز كل الإعاقات، وأن تتصدى لكل المخططات فقد استطاع الرئيس بتفهم شعبه وإرادته، أن يرد على صفقة القرن وان يصمد في وجهها رغم كل ما حدث من إجراءات أمريكية على أرض الواقع…
وهو لا يسلم بذلك بل أنه يواصل رحلة تجسيد الدولة التي تنكرها إسرائيل، حين تكرس نظام الابارتايد العنصري الذي سيعيد تشكيلها لتواجه وضع دولة جنوب أفريقيا التي دفنها العالم، واستبدلها بدولة حرة يشارك فيها جميع مواطنيها….
ما زال اليمين الإسرائيلي الارعن، يعمل بقانون حق القوة وليس قوة الحق، وما زال الفلسطينيون خلف قيادتهم يؤمنون بقوة الحق التي لا يملكون منها إلا إرادتهم، الباحثة عن وسائل لصمودهم وستنتصر قوة الحق، على حق القوة مهما طال الطريق، فالقوة الغاشمة لن تبق والأسلحة والجبروت سيزولان، وعلينا ان نتذكر ترسانة السلاح السوفييتية وأين ذهبت….