عروبة الإخباري – جاءت استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري لتشكل ضربة لرؤوس النظام اللبناني وخاصة الرئيس ميشال عون والأمين العام لحزب الله المتمسكين ببقاء ما يصفانه بالعهد القوي.
ولكن في مواجهة إصرار الشارع اللبناني على استقالة الحكومة بل وبمطالبته انتهاء هذا العهد برمته قرر الحريري الاستقالة.
وقال الحريري في خطاب مقتضب لإعلان استقالة حكومته: «وصلت إلى طريق مسدود، ولابد من صدمة كبيرة لمواجهة الأزمة، أنا ذاهب إلى قصر بعبدا لتقديم استقالة الحكومة لفخامة الرئيس ميشال عون، وللشعب في جميع المناطق».
اللافت أن الحريري قال «أضع استقالتي بتصرف رئيس الجمهورية وكل اللبنانيين»، وهو ما قد يفهم منه أنها استقالة قد تقبل المراجعة، أو الرفض.
ولكن مصادر مقربة لرئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري صرحت لقناة الـ»LBC» اللبنانية أن «الاستقالة التي تقدم بها اليوم نهائية ونافذة»
ويبدو أن الحريري قرر أن يترك المركب للمتحكمين الفعلين بالحكومة العماد عون وحزب الله بعد أن وضح له أنهما سيورطانه مع صراع مع الشارع قد يكون هو أكثر من يدفع ثمنه خاصة بعد تلميحات الأمين العام لحزب الله باستخدام القوة التي اتبعها تحرشات من أنصار حزب الله وحركة أمل بالمتظاهرين.
باستقالته يتجنب الحريري الدخول في مواجهة مع الشارع اللبناني ليلحق بحلفائه القدامى والتقليديين مثل حزب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع والحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة وليد جنبلاط الذي باتت مواقفهما أقرب للشارع، خاصة القوات الذي استقال من الحكومة، تاركاً حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر (التيار العوني) في مواجهة الشارع وحدهما.
وبالفعل، قالت وزير الداخلية ريا الحسن (ممثلة لتيار المستقبل بالحكومة) في تصريح على مواقع التواصل الاجتماعي إن «استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري كانت ضرورية لمنع الانزلاق نحو الاقتتال الأهلي الذي شهدنا خطره اليوم في وسط بيروت».
كما أن استقالة الحريري ترسخ صورة بأن هذا العهد هو عهد حزب الله وحليفه عون، وتعزز احتمالات أن تتوجه سهام الحراك الشعبي إلى هذين الرجلين.
وتتيح الاستقالة للحريري الابتعاد عن المشهد والانضمام إلى الشارع أو على الأقل الاستفادة من هذا الحراك لإعاده إحياء موقف 14 آذار الرافض لهذا العهد وما يمثله من سيطرة لحزب الله.
أو تتيح له العودة لرئاسة الحكومة بموقف أقوى يستجيب فيه شركاؤه بشكل أكبر لطلباته والأهم أن يكون الشارع أقل عداءً له بعد أن بدا أنه أكثر السياسيين استجابة لنداءاته.
وفقاً لطلبات الحراك اللبناني فالهدف النهائي هو إسقاط العهد القوي بمعنى «كلهن يعني كلهن» أي كل رموز النظام بلا استثناء بما في ذلك الرئيس اللبناني العماد ميشال عون وبالطبع زوج ابنته جبران باسيل وزير الخارجية ورئيس التيار الوطني الحر الذي يعد واحداً من أكثر الشخصيات المكروهة في لبنان.
ولكن يصعب تصور أن يتحقق هذا السيناريو، فعون الذي يظل يحلم بأن يصبح أن يكون رئيساً منذ أكثر من ثلاثين عاماً عندما كان قائداً للجيش سيتخلى عن حلمه بهذه البساطة.
فالرجل قاتل بالمعنى الحرفي للكلمة مستخدماً الجيش الذي تحت يديه خلال الحرب الأهلية ليسكن قصر بعبدا (قصر الرئاسة) ولم يخرج منه إلا بعد أن دمرته القوات السورية على رأسه ورؤوس جنوده ليهرب منه إلى السفارة الفرنسية في بيروت.
وقبل ذلك هاجم أنصاره مقر البطريركية المارونية مجبرين البطريرك على إبداء احترامه للجنرال كما يلقبه أنصاره وحلفاؤه.
ولا حزب الله على استعداد للتخلي عن العهد القوي الذي يعتبره عهده الخاص بعدما أوصل حليفه عون للرئاسة وعزز هيمنته على سياسة البلاد في وقت يتعرض فيه لحصار أمريكي هو حليفته إيران.
السيناريو التصادمي.. حكومة جديدة برئاسة رديف الحريري
لا يعرف حتى الآن هل استقالة الحريري تمت بالتنسيق مع عون وحزب الله أم لا.
ولكن التباين الواضح بين خطاب نصرالله الهجومي وخطابات الحريري الاعتذارية تجاه المتظاهرين تكشف عن خلاف واسع بين الجانبين، وهو ما ألمح له مصطفى علوش القيادي بتيار المستقبل والنائب السابق.
وقد يعني ذلك في الأغلب أن الاستقالة تمت دون تنسيق أو موافقة حزب الله وعون.
ويعني هذا الاحتمال أن يحاول عون والحزب السير قدماً في إصرارهما على رفض تقديم تنازلات جوهرية للحراك، ومحاولة الإبقاء على أركان العهد.
وقد يعني ذلك محاولة تشكيل حكومة جديدة اعتماداً بالأساس على الكتل النيابية لقوى 8 آذار وحلفائهم التي تعززت أحجامها في الانتخابات الأخيرة، عن طريق تكليف أي سياسي سني كبديل للحريري، وهو أمر حدث من قبل نجيب ميقاتي.
اللافت أن ميقاتي قال منذ عدة أيام إن الحل للأزمة التي تمر بها البلاد، يكمن في استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري وإعادة تكليفه، وأضاف: «الحل الصحيح الذي أراه هو أن يستقيل الحريري ويعاد تكليفه، حتى يكون بإمكانه فرض خطته الاقتصادية مع الحكومة التي يراها متفقة معه».
وبالإضافة إلى الصعوبات التي ستواجه هذا الخيار خاصة أن بعض القوى والنواب المترددين أو الذين يقفون في الوسط بين 8 و14 آذار قد لا يدعمون مثل هذه الحكومة التي ستكون مرفوضة شعبياً، فإن مثل هذه الحكومة ستواجه مشكلات كبرى إذا تشكلت.
أولاً: ستكون حكومة مرفوضة شعبياً ولن يعني تشكيلها توقف التظاهرات بل قد تزيد لأن الحراك يرفضها.
ثانياً: مثل هذه الحكومة ستستبعد قوى 14 آذار التي بدأت بالفعل تنأى بنفسها عن العهد، وبالتالي قد يؤدي تشكيل هذه الحكومة إلى انضمام أنصار 14 آذار للشارع مما يعزز التظاهرات حتى لو اكتسبت لوناً سياسيا حزبياً مخالفاً حالياً للونها اللاطائفي واللا حزبي المميز.
ولكن سيصبح الشارع و14 آذار في مواجهة حكومة حزب الله وحلفائه.
ثالثاً: خروج الحريري من الحكومة يعني إضعافاً شديداً لمصداقيتها الدولية والعربية إذ تظل إحدى نقاط قوة الحريري في أنه أكثر الشخصيات اللبنانية قبولاً في الخارج، وهو أمر تزداد أهميته في ظل حاجة لبنان الماسة للمساعدات الاقتصادية الخارجية بعد أن وصلت أزمته المالية لمستوى خطير.
أحد السيناريوهات المكررة في لبنان هو سيناريو الفراغ.
وفي هذا السيناريو قد يقبل عون أو لا يقبل استقالة الحريري، ولكن في كل الأحوال يعتبر الحريري أن الحكومة مستقيلة وتتحول إلى حكومة تسيير أعمال.
وفي لبنان سبق أن حكمت حكومات تسيير الأعمال لفترات طويلة مثلما حدث مع حكومة نجيب ميقاتي عام 2013 التي ظلت تقوم بتسيير الأعمال لمدة تقل قليلاً عن عام بسبب عدم تمكن رئيس الوزراء المكلف تمام سلام من تشكيل الحكومة جراء الخلافات السياسية والمساومات على الحقائب الوزارية .
وفي هذه الحالة فإن الحكومة غالباً لا تجتمع ويصبح اتخاذ القرارات المصيرية أمراً صعباً خاصة تلك التي تحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء بينما يقوم الوزراء بتسيير أعمال وزاراتهم، وفعلياً تؤدي هذه الحكومة لزيادة سلطة الوزراء في ظل توقف اجتماعات مجلس الوزراء كما تؤدي إلى توقف الأعمال الضرورية.
المشكلة أن لبنان شهد مثل هذه الحكومات مرات عدة، ولكن أي منها لم يعايش أزمة مالية بمثل هذا السوء الذي تعاني منه البلاد حالياً وبالتالي تتطلب قرارات مصيرية وجوهرية لا تستطيع اتخاذها حكومة تصريف أعمال.
سيناريو الحريري مجدداً : ولكن بوجوه مختلفة
أحد السيناريوهات هو إعادة تشكيل الحكومة برئاسة الحريري مع محاولة التخلص من الشخصيات التي تستفز الشارع.
علماً بأن أكثر الشخصيات التي تستفز الشارع هو جبران باسيل صهر الرئيس وشخصيته المفضلة والذي رفع أسهمه حتى مقابل ابن أخيه آلان عون وزوج ابنته الآخر العماد ميشال روكاز رغم أنهما كانا يحظيان بشعبية تفوق باسيل.
وحسب النائب السابق مصطفى علوش، عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل» فإن الحريري كان يحاول تنسيق الاستقالة عبر الاتفاق على حكومة جديدة، إلا أن الإصرار على بقاء وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل في الحكومة الجديدة حال دون الاتفاق المسبق عليها.
وفي هذا الإطار كان لافتاً ما قاله الزعيم الدرزي وليد جنبلاط من أنه سيقف مع الحريري إذا قرر العودة لرئاسة الحكومة.
تشكيل حكومة تكنوقراط أو ثوار.. خيار طوباوي يزداد الإلحاح عليه
تزايد تأييد هذا الطرح سواء من قبل المحسوبين على الحراك أو حتى من قبل السياسيين التقليديين.
وفي هذا الإطار قال القيادي في تيار المستقبل مصطفى علوش إن الحل هو في تشكيل حكومة تكنوقراط، لكنه لفت إلى أن رئيسها يجب أن يكون سياسياً من الطائفة السنية لأن رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي سياسيان (الرئيس مسيحي ورئيس البرلمان شيعي).
ويظهر تصريح علوش إنه حتى في حال تشكيل حكومة تكنوقراط فإن الأمر لن يخلو من الطائفية.
وتحدث البعض عن تشكيل حكومة من قبل الثوار، علماً أن مفهوم الثوار مفهوم فضفاض، كما أن الثوار مخترقون من الجانبين الحزبيين، ففيه يساريون وقوميون محسوبون على 8 آذار، وفيهم نشطاء مجتمع مدني ويساريون ديمقراطيون مقربون من 14 آذار.
المتظاهرون ينتمون لكل الطوائف
الأهم هل يقبل حزب الله والتيار الوطني الحر، ودستة الأحزاب اللبنانية أن يتركوا العمل بالسياسة لموظفين متأنقين أو نشطاء ميدانيين منكوشي الشعور.
وحتى لو وافقوا، وهو أمر مستبعد هل يستطيع التكنوقراط التعامل مع أروقة النظام السياسي اللبناني الذي شيده دواهي الطائفية اللبنانية منذ عقود.
فالتكنوقراط يمتلكون المعرفة الفنية للخروج من الأزمة ولكن يفتقدون الصلابة والمكر اللازمين للتعامل مع الإرث اللبناني، بينما الثوار لديهم بعض الصلابة ومقدار أقل من المكر، ولكن يفتقدون في الأغلب المعرفة ويغلب عليهم الحماس والعفوية بطريقة قد تؤدي إلى تدهور لاسيما في الجوانب المالية.
الحل الأكثر واقعية.. إصلاحات حقيقية وانتخابات مبكرة
الحل الأكثر واقعية ولكن قد لا يرضى به حزب الله ولا الرئيس عون ولا الثوار هو إجراء إصلاحات راديكالية عبر مجلس النواب والحكومة سواء قبلت استقالتها أم لا.
إجراءات لا تقضي على النظام الطائفي ولكن ترشده وتفتح الطريق لعقلنته وتطويره وصولاً لتغييره بدلاً من انسداد الآفاق الذي سيحطم لبنان نفسه وليس نظامه فقط.
إصلاحات تسمح بمحاسبة حقيقية للفاسدين، وتقلل المحاصصة الطائفية، وتؤدي إلى قضاء عادل وقانون انتخابات أقل طائفية ويسمح بكسر احتكار الأحزاب التقليدية للحكم ويتيح الفرصة لطبقة واسعة من اللبنانيين التي سئمت من الطائفية.
وفي هذا الصدد، يقترح الكثيرون انتخابات يكون فيها لبنان كله دائرة واحدة نسبية لإعطاء طابع قومي للانتخابات وإعطاء وزني نسبي أكبر للأحزاب والشخصيات الوطنية غير الطائفية، فالدوائر الصغيرة تعطي فرصاً أكبر للعائلاتية والطائفية، كما أن النظام الفردي أو الأكثري ( أي الذي يفوز بالدائرة من يحصل على النصف زائد واحد) يؤدي إلى إضاعة أصوات الأقلية السياسية (بمعنى لو أن حزباً عابراً للطائفية حصل على 20% من الأصوات في كل الدوائر عبر البلاد لا ينال أي نائب في حال نظام الانتخابات الفردية).
ويتفق جميع اللبنانيين تقريباً بمن فيهم العلمانيون على عدم المساس بالتوزيعة الطائفية للبرلمان.
ويجب أن تتضمن هذه الإجراءات بعد وضع قانون انتخابات جديد إجراء انتخابات مبكرة.
كما أن مسألة استقلال القضاء والتي بدأ القضاة يثيرونها تكتسب أهمية خاصة في أي إصلاحات محتملة.
سيناريوهات الفوضى والقمع
في الأغلب فإن كلا السيناريوهين سيفضي للآخر.
القمع قد يؤدي للفوضى، إذ قد يرفض قطاع من الجيش اللبناني والشرطة قمع المتظاهرين وقد تسوء الأمور إذا دافعا عن المتظاهرين ضد تدخل ميليشياتي من حزب الله وحركة أمل أو غيرهما.
على الجانب الآخر، فإن مبادرة المتظاهرين بتصعيد قطع الطرق وإحداث الفوضى قد تشجع الطبقة الحاكمة على اللجوء للعنف لقمع التظاهرات.
وقد يكون هناك سيناريو ثالث تقوم فيه القوى الحاكمة بإحداث فوضى لتنفير الناس من التظاهرات تمهيداً لقمعها.
في كل الأحوال فإن الأمر متوقف بشكل كبير على مدى قبول الرئيس اللبناني لاستقالة الحريري وهل هذه الاستقالة محاولة من الحريري لتهدئة الشارع أم أنه قرار نهائي بالخروج من الحكم في هذه المرحلة على الأقل.
كما أن على المتظاهرين أن يقدموا بديلاً فلا يكفي رفض النظام القديم بل يجب أن يكون هناك بديل سواء في الشخصيات أو القوى السياسية أو الأفكار أو المؤسسات