منذ وصول الرئيس دونالد ترامب إلى موقع القرار الأول في الإدارة الأميركية نهاية العام 2017، بدا المشهد السياسي الشرق أوسطي يسير باتجاه التعقيد. فالرئيس ترامب، أعلن وبالصوت العالي انحيازه العملي لدولة الاحتلال “الإسرائيلي”، فكان خلال الفترة التي مضت حتى الآن من رئاسته أكثر الرؤساء الأميركيين انحيازا، ودعما، وإسنادا لدولة الاحتلال، وقد حقق لها ما كانت تصبو إليه من أهداف متتابعة، بدءا من الاعتراف بالقدس الموحدة كعاصمة لدولة الاحتلال، ونقل السفارة إليها، وصولا للاعتراف بالضم غير الشرعي للجولان السوري المحتل وإلى شطب عبارة فلسطين والسلطة الوطنية الفلسطينية من الخرائط والوثائق الأخيرة التي تعود للخارجية الأميركية.
ولم يستطع الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ وصوله لموقع القرار الأول في الولايات المتحدة، أن يساعد على حل مشكلة واحدة من قضايا وعنوان الخلافات والتباينات الأميركية مع الخارج. بل العكس تماما، فكل ما قام به لا يعدو عن إثارة الزوابع و”الرمال” بشأن الملفات الكبرى، دون نتائج تعود إليه بالمكاسب السياسية على مستوى الداخل الأميركي، الذي ضاق ذرعا بسياساته الخارجية والداخلية على حد سواء، وهو أمر لا يساعده على الإطلاق في تمرير طموحه للصعود إلى فترة رئاسية ثانية في الولايات المتحدة. وهو ما دفعه مؤخرا لإقالة عدد من المتنفذين في البيت الأبيض، كان على رأسهم صاحب “الشوارب الكثة” الشقراء، الصقري، جون بولتون.
الرئيس دونالد ترامب فشل في معالجة الملفات القريبة منه ومن الولايات المتحدة، ونعني بها الموضوع الفنزويلي، حيث استطاعت روسيا والصين توفير الدعم السياسي لهذا البلد على مستوى المجموعات الدولية، وبالتالي في كسر المحاولات الأميركية لاصطناع انقلاب بهذا البلد يطيح بالنظام القائم. والآن عادت المجموعات الثورية تنشط من جديد في بوليفيا على ضوء التدخل الأميركي في ذلك البلد. هذا بالجوار من الولايات المتحدة، أو ما يُطلق عليه بالحديقة الخلفية للولايات المتحدة، فكيف الحال مع الصين الشعبية وروسيا… وصولا للملف الإيراني والشرق الأوسط؟
أغلب الظن أن الصين الشعبية، الدولة المتماسكة بقرارها وسيادتها، والتي يحكمها نظام قوي، قادرة على الفوز بمعركتها التجارية والاقتصادية الجارية تحت الرماد مع الولايات المتحدة. وقادرة أيضا على مواجهة المصاعب التي يسببها التدخل الأميركي في بحر الصين الجنوبي، والعلاقات بين واشنطن وتايوان، خصوصا العسكرية منها، ومواجهة التحريض الأميركي على ما يجري في جزيرة هونج كونج. فالقضايا التي تتصل بالأوضاع الناشئة في جنوب شرق آسيا نتيجة توسع النفوذ الصيني المستمر في بحر الصين الجنوبي وفي وسط آسيا وفي بحار ومحيطات شتى باتت أكثر وأوسع مما كان الأمر عليه في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، فالهجوم السياسي الدبلوماس، والاقتصادي التجاري الصيني يقضم أجزاء بعد أجزاء من جسد النفوذ الأميركي في تلك المنطقة الحيوية من العالم حيث تتركز صراعات كبرى (الكوريتين).
أما بالنسبة للمواضيع المتعلقة بالعلاقات الأميركية مع دول الاتحاد الأوروبي، فالأمور مقدرا لها أن تسير باتجاه التعقيد حال بقيت سياسة الرئيس دونالد ترامب على ما هي عليه، وحال عاد إلى مواقع القرار بدورة انتخابية ثانية. فقد عطّل الرئيس دونالد ترامب اتفاق (5+1) النووي مع إيران، وأدخل الأوروبيين في متاهات كبرى، لا يستطيعون فيها تجاهل مصالحهم مع إيران على صعيد الاستثمارات والنفط والغاز وغير ذلك. وعليه، نرى حالة التأفف واضحة في المواقف الأوروبية من الموقف الأميركي حيال الملف النووي الإيراني وتشابكاته، باستثناء مواقف بريطانيا المُتذيلة للموقف الأميركي. وعلينا أن نلاحظ في هذا السياق العدد المتزايد للمواقف الأوروبية الرافضة لسياسات الرئيس دونالد ترامب في أوروبا وخارجها. فأوروبا التي هي الجناح الآخر للغرب وبدونه لن يطير هي الآن تقف بالمرصاد رافضة معظم سياسات الرئيس ترامب الخارجية ومتوجسة شرا من كل خطوة يخطوها باسم الغرب.
أوربا، ودول الاتحاد، تحمّلت كثيرا وطويلا. تدخلات الرئيس دونالد ترامب، في شؤون دولها، وشؤون الاتحاد الأوروبي، الذي كان ولا يزال مستمرا، فيما الرئيس دونالد ترامب يمقت فكرة الاتحاد الأوروبي ويحاول تحطيمها. ويزداد غيظه كلما وقعت حالة تقارب بين دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين الشعبية. لذلك يُعتبر الرئيس ترامب من المشجعين الأساسيين لخروج بريطانيا من دول الاتحاد، بل ودفع من أجل تحقيق هذا الغرض، بالرغم من الانقسام الكبير في المجتمع والشارع البريطاني بشأن هذا الموضوع.
وبالطبع، أوروبا، ودول الاتحاد، لن تكون في معظم القضايا المطروحة، مطواعة لقرار سيد البيت الأبيض، والدليل على هذا ـ وعلى سبيل المثال ـ أنها ما زالت متمسكة بالاتفاق النووي مع إيران، وما زالت تفتح الطريق أمام القنوات السياسية والدبلوماسية لمنع الاتفاق من الموت والانهيار، وهذا لا يروق للرئيس دونالد ترامب، الذي عمل على التصعيد مع إيران، ومحاولة توريط الأوروبيين، وصولا إلى حدود الانفجار في منطقة الخليج خلال الشهر الماضي، وحينها عاد الكرة وراجع سياساته، فالداخل الأميركي لن يقبل توابيت طائرة تأتيه كل يوم من المنطقة، فانكفأ عن الخوض في مغامرة غير محسوبة كانت ستجلب له العار والهزيمة في الداخل الأميركي على الأقل.