تعطي وعود نتنياهو بضم منطقتي غور الأردن وشمال البحر الميت الفلسطينيتين، مؤشراً لما يمكن للموقف الإسرائيلي النهائي من منطقتي «الغمر والباقورة» الأردنيتين، أن يكون عليه … عدة أسابيع فقط، باتت تفصلنا عن استحقاق استعادة المنطقتين، بعد انتهاء مهلة «الإنذار» الأردني بعدم الرغبة في تجديد عقدي إيجار المنطقتين الممتد منذ خمسة وعشرين عاماً أعقبت التوقيع على معاهدة السلام الأردنية – الإسرائيلية.
صحيح أن وعود نتنياهو التوسعية الأخيرة استهدفت أساساً حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية، إلا أنها بدورها تشكل استهدافاً للأردن ومصالحه في «الحل النهائي» للقضية الفلسطينية …. مثل هذا التطور، يجب أن يقابل بردة فعل غير مسبوقة، من الجانبين الأردني والفلسطيني، ومن العرب والمجتمع الدولي على حد سواء … ردود الفعل التي صدرت حتى الآن، من النوع الذي خبرته إسرائيل واعتادت عليه، ولم تعد تخشاه أو تقيم له وزناً أو حساباً.
نقول إن هذه الوعود العدوانية تعطي مؤشراً على ما يمكن أن تنتهي إليه «حالة الصمت» التي تخيم على الموقف الإسرائيلي عشية الاستحقاق … وفي المعلومات أن بضعة جولات من «التفاوض» قد حصلت بين الجانبين من دون ضجيج أو إعلام، إذ أن كلا الجانبين يريد إدارة الملف بعيداً عن الرأي العام، ولكل منهما أسبابه ومبرراته … لكن وفقاً لمختلف التقديرات، فإن من المستبعد أن يجري إغلاق هذا الملف في مواعيده واستحقاقه المقررة … وسنكون أمام جولات إضافية، من الواضح تماماً أنها تتم عبر قنوات أمنية، وليس عبر قنوات سياسية أو دبلوماسية معتادة».
ملف الباقورة يبدو أشد تعقيداً من ملف الغمر، بالنظر لوجود مزاعم بملكيات إسرائيلية خاصة في هذه المنطقة … وعلى الرغم من أن المعاهدة تضمنت ما يضمن السيادة الأردنية على هذه الأرض، إلا أن تنقل الإسرائيليين وإقامتهم فيها واستثماراتهم عليها، لا تخضع حتى الآن للقوانيين والإجراءات الأردنية المرعية … ومن المشكوك فيه أن تقبل حكومة اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل، أن تتخلى عن هذا «الامتياز» لمواطنيها في المستقبل، وربما تفكر في طرح «ترتيبات خاصة»، وربما يكون التفاوض بشأنها قد بدأ.
لا يستطيع الأردن أن يتراجع عن موقفه من استعادة السيطرة التامة على أراضيه «المؤجرة»، سيما وأن القرار الحكومي جاء بناء على توجيه ملكي ابتداءً، وحمل خاتم الملك وتوقيعه، وحظي بتأييد شعبي تام وناجز … التراجع عن القرار ليس خياراً يمكن للأردن أن يقبل به، من دون أن تترتب عليها أكلاف سياسية ومعنوية عالية جداً، في زمن نبدو فيه بغنى عن تكبد خسائر إضافية.
وليس من المتوقع أن تبادر الحكومة الإسرائيلية اليمينية القائمة، أو حال تشكيل حكومة جديدة، إلى جعل انتقال هذه المناطق للسيادة والسيطرة الأردنيتين، أمراً سلساً ويسيراً … وستفضل الحكومة الإسرائيلية اللجوء إلى تكتيكها المفضل «المزيد من المفاوضات العبثية» التي تستهدف تقطيع الوقت وتمريره، وإماتة المسألة برمتها في دهاليز مفاوضات لا تنتهي … مثل هذا الخيار، لا ينبغي أن يكون مقبولاً من الجانب الأردني بأي ظرف من الظروف، وهو يعادل موضوعياً تراجع الأردن عن قراره.
لدى الأردن أوراق عديدة، يمكن أن يلجأ إليها لاستعادة أراضيه المُستثمرة من قبل الإسرائيليين … منها «التدويل» و»التحكيم»، والأهم إرسال رسالة واضحة للإسرائيليين مفادها أن الأردن لن يقبل بمزيد من الخروق والتجاوزات لمعاهدة السلام 1994، وهذه المرة، فإن انتهاكها يعادل الإجهاز عليها…. وهي على أية حال، لم تعد تحتفظ بأهميتها بالنسبة للأردن، فلا هي خدمت أهدافه الاستراتيجية في منع التوطين و»الوطن البديل» وكثير مما قيل ويقال، ولا هي جلبت للأردن أنهاراً من السمن والعسل ووعود الرخاء والازدهار … والأهم من هذا وذاك، أنه مقابل الالتزام الأردني الدقيق والحازم بالتزاماته بموجب المعاهدة، فقد خرقتها إسرائيل في غير مرة وهي تخرقها اليوم في القدس ومقدساتها، على أرفع مستوى، وبشكل منهجي منظم.
أسوأ ما يمكن أن يواجه الأردن وهو يسعى لاستعادة سيطرته واستثماره لأرضه، هو أن يدخل في مفاوضات عبثية غير محددة بسقف زمني وهدف محدد، أو أن يدخل هذه المفاوضات، فيما الطرف الآخر، مطمئن تماما لما يمكن أن يصدر عنه من مواقف وردود الأفعال … لا يجب السماح بأن يجري التعامل مع الأردن بوصفه «مضموناً» وأن مواقفه متوقعة، فتلك هي نهاية المطاف وليست بدايته.