من دون أن يقصد أو يدري، ساهم دونالد ترمب في كشف السرّ الشائع عن يهود أميركا وولائهم لإسرائيل، وبذلك أيّد «رسمياً» خلاصة ما توصلت إليه أبحاث أميركية سياسية واجتماعية لطالما انبرى «اللوبي اليهودي» إلى دحضها وملاحقة أصحابها. لم يكن للعرب ولا لأي من الخصوم التقليديين لليهود أو «معادين للسامية» دور رئيسي في تلك الأبحاث التي درست الواقع، واستندت إلى وثائق، لكن الصوت الأعلى بقي دائماً للسياسة العليا في واشنطن، ولما تعتبره مؤسسة الحكم «ثوابت»، من أبرزها تحالف مستمر مع إسرائيل وانحياز أعمى، أياً كان الحزب الحاكم فيها، ومهما بلغت جرائمها ومخالفاتها للقانون الدولي، بل القانون الدولي الإنساني.
ذهب ترمب في هذا الانحياز أبعد كثيراً من أسلافه، وحوّل «صداقته» مع بنيامين نتنياهو إلى استراتيجية تخريب لملفات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ولمقوّمات الحل السلمي (الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وعدم الاعتراف بـ «حل الدولتين»، وعدم الاعتراف بلاشرعية المستوطنات، وحملة لإلغاء منظمة «الأونروا»، وسكوت مؤيد لاقتحامات المستوطنين الحرم القدسي)، كذلك لملفات السلام العربي – الإسرائيلي، من خلال إهداء نتنياهو عشية انتخابات أبريل الماضي، اعترافاً بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، والبحث جارٍ عن «هدية» جديدة لتعزيز حظوظ نتنياهو في انتخابات سبتمبر المقبل.
لكن ترمب نفسه دخل حملته الانتخابية الثانية للبقاء في البيت الأبيض، ولأن عقلية رجل الأعمال لا تستسيغ العطاء من دون مقابل، فقد اعتبر أنه حان الوقت لكي يكافئه اليهود على ما قدّم لإسرائيل، وهو لا يريد أقلّ من تحويل أصوات ناخبيهم إليه ضد أي مرشح منافس من الحزب الديمقراطي. ولذلك فجّر قنبلته العنقودية ضد اليهود المؤيدين للحزب الديمقراطي، وأطلق عليهم كل الأوصاف المهينة: جهلة، وأغبياء، وخونة، وعديمو الولاء لإسرائيل… لم يقل «الولاء لأميركا»؛ لأنه يعتقد أن الولاء يجب أن يكون له.
كما أن إسرائيل تدير السياسة الخارجية الأميركية، وفقاً لاقتناع كثيرين من أهل الدبلوماسية، فلا حرج على ترمب إذا أعطى بعض الأوامر لـ «صديقه». في غضون أسبوعين، كانت تلك المرة الثانية التي كتبت فيها الصحافة العبرية أن ترمب «أحرج» نتنياهو. الأولى عندما غرّد بأن السماح للنائبتين الديمقراطيتين رشيدة طليب وإلهان عمر بزيارة إسرائيل سيكون «علامة ضعف»، لكن منعهما أطلق جدلاً واستياءً غير مسبوقين، ليس من أجلهما، وليس فقط في حزبهما، بل في أوساط الكونجرس عموماً، فحتى الدول المارقة نادراً ما ترفض زيارات أعضاء في الكونجرس أياً تكن أهدافهم… والمرّة الثانية عندما أثار مسألة حسّاسة يتفادى اليهود التطرّق إليها، فهم جميعاً مزدوجو الولاء، لإسرائيل ولأميركا معاً، لكن غالبيتهم ليست مع نتنياهو ولم تصوّت لترمب عام 2016، ولذا يعتبر أنهم عديمو الولاء إذا لم يصوّتوا له في 2020. رغم الغضب ظلّت ردود فعل يهود أميركا في إطار الدفاع عن انخراطهم في «الديمقراطية الأميركية» والقول إن الحديث عن الولاء «غير مناسب» أو «مثير للانقسام»، لكن هناك حاخاماً أشار إلى أن ترمب «يستخدم اليهود في كرة قدم سياسية»، فيما قال آخرون إنه استعار مصطلحات معادية للسامية للتهجّم على اليهود.
وفي رأي معلّقين إسرائيليين فقد أساء الرئيس لإسرائيل في المرّتين، لكن «صديقه» استطاع تمرير منع زيارة النائبتين، أما بالنسبة إلى التصويت اليهودي للديمقراطيين فهو لا يستطيع الردّ بالمثل على «هدايا» ترمب. ومع أن ثمة مصلحة للعرب في هذه الوقائع إلا أنهم أعجز من أن يستغلّوها.
