عروبة الإخباري- كتب سلطان الحطاب
في فلسطين الآن مرحلة جديدة، أعاد تصميمها الرئيس محمود عباس منذ فترة و أطلقها أخيراً، وقد كلف رئيس وزرائه النابه “الدكتور محمد اشتيه” بانفاذها..
الخطة تأخذ بعين الاعتبار عمق فلسطين الأول وهو الأردن، حيث تقوم هذه على انسحاب الاقتصاد الفلسطيني من تبعيته للاحتلال وبالتدريج، لأن بقاء الاقتصاد الفلسطيني في قبضة الاحتلال وفي إطار هيمنته الكاملة، يعني عدم الذهاب باتجاه الاستقلال، وعدم الاقتراب من بناء الدولة المستقلة التي ناضل الشعب الفلسطيني من أجلها وأقرتها الشرعية الدولية بـ ( 140) دولة..
الحديث مع الرئيس محمود عباس وقد استمعت اليه يزرع تفاؤلا متجددا، بدور و بصمود الشعب الفلسطيني الذي يشكل حالة نضال راسخة، فحين تدلهم الأمور وتتعقد ويجري سؤال أبو مازن عنها، فإنه يبدد ذلك بابتسامة من الصعب تفسيرها وهي أشبه بابتسامة “الموناليزا” فهي تحتمل القراءات المتعددة..
صلابة الرجل وبرود أعصابه الظاهري وقدرته على كسر الحلقات والخروج من المآزق، هو عمليه متجددة ولذلك يحار فيه اعداؤه، الذين يعتقدون انهم يستطيعون صيده بالابتزاز او الضغط الزائد او افراغه من الصبر، ويبدو ان ابو مازن كاتب التاريخ ومستلهم عبره في القضية الفلسطينية ومناخاتها منذ أن بدأت، استفاد من الدروس على أكثر من صعيد ، فالفلسطينيون عنده لن يكرروا رحيل نكبة عام 1948 ، ولا رحيل نكسة عام 1967 ، وهم جالسون فوق صدر الاحتلال ثابتون على ترابهم الوطني مهما طال ليل الاحتلال الذي سينبلج فجرا بصمودهم..
والفلسطينيون اليوم هم غيرهم من خلال قيادتهم لا يتدخلون بالوضع العربي المعقد في أنظمته المختلفة، ولا ينحازون لهذا المحور ،وهم ليسوا في الضد ، او ضد الضد ، فقد اعتبروا و دفعوا ثمنا بما يكفي، ومايهمهم هو قرارهم الذي يريدون أن ينأوا به عن المصادرة والتدخلات..
الآن هذه مرحلة جديدة، فالرئيس ليس في بيات صيفي او شتوي، وليس منزويا إن لم يسمع له البعض ضجيجا، بل هو عاكف علي ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، منذ كلف رئيس وزراءه الذي كان تلميذا في مدرسة الرئيس وما زال، والذي أدركت بعد مقابلتي له في مكتبه يوم السبت الماضي في رئاسة الوزراء أنه يعرب الجملة العباسية بشكل مجتهد، ويقدمها كما يتمنى الرئيس الذي عجم عيدان أبناءه في فتح، فاختاره حين اجتمعت عليه اللخبة المركزية في فتح ليكون رئيسا للوزراء، مناط بفتح ان تُمكنه من النجاح، لأن نجاحه نجاح لها وفشله غير مقدر له ان يكون.
الرئيس عباس حين اتخذ قرارات هامة و مصيرية بخصوص وقف التنسيق مع الاحتلال ، وهي كلمة تجر جدولا من الأعمال يتعدى ما يعتقده البعض بسذاجة في أنه إجراء واحد .. إن الوقف بالتعاون مع الاحتلال يعني فتح باب حياة أخرى متكاملة ومختلفة، يجري بناؤها لبنة لبنة، وتحتاج إلى صبر وإرادة وإخلاص وعقليات نظيفة، تؤمن بالمشروع الوطني وتعمل على الانفكاك من الاحتلال بأي ثمن..
أول الثمار لسياسة الرئيس أبو مازن الجديدة، التي بدأ الدكتور اشتيه انفاذها بدأت تطرح أكلها من خلال الضيق الاسرائيلي، و ردود الفعل الاسرائيلية المتشنجة بعد ان اتخذت السلطة الفلسطينية قرارها بخصوص فاتورة العلاج في المستشفيات الاسرائيلية، وهي فاتورة عالية تقدر بعشرات الملايين حين كان المرضى وخاصة من الأطفال يتدفقون على المستشفيات الاسرائيلية.
الخطوة ان السلطة أرادت مراجعة واسعة وعميقة وجادة في هذا المجال، و قد وصلت الى حقائق مذهلة وخطيرة في شكل التعامل الذي يستفيد منه الاحتلال، ويكرس التبعية ولا يعطي مجال لنمو الخبرات الفلسطينية في هذا المجال، فالفلسطينيون لديهم مستشفيات ويستطيعون أقامة المزيد منها و بوسائل مختلفة، رغم ضيق الحال بالحصار المالي عليهم، ولديهم كوادر طبية فلسطينية مميزة في كل انحاء العالم، يستطيعون استدعاءها والاستفادة من خبرتها، وهم يرون أن عمقهم العربي وخاصة مع الاردن هو الأولى لذلك، ولما شرع الرئيس ابو مازن في اتخاذ هذه الخطوة وبارك انفاذها، قامت قائمة الاحتلال وبدأت الاتصالات وطلب المفاوضات، فإسرائيل لا يعنيها ما يعانيه الفلسطينيون من احتلالها من ارهاب وعسف وتضييق و هدم منازل و اعتقالات ومصادرة اراض وبيوت، وإنما يعنيها ان يبقي احتلالها رابحا ومريحا، وان يظل يتدفق الى مستشفياتها مرضى تزيد كلفة علاجهم عن (100) مليون دولار سنويا،( قد لا يكون هذا الرقم دقيقا)، وذلك لأن حجب المرضى الفلسطينيين عن المستشفيات الاسرائيلية، يعني اغلاق لبعض هذه المستشفيات، كما حدث من إحدى المستشفيات التي تستقبل الاطفال والذي أصبح مهددا بالإغلاق، ويعني تعطل اطباء ودخولهم الى اضرابات، ويعني خسارة نتنياهو لاصوات ناخبين ظلوا مستفيدين من سياساته الاحتلالية.
ادركت والدكتور اشتيه يقول : ما لم نتخذ مثل هذه الخطوات التي وجه لها الرئيس، ولجنتنا المركزية، وقرارات هيئاتها التمثيلية، فإننا لا نسير باتجاه الاستقلال وبناء الدوله، وإنما سنبقى نتعامل مع تكريس الاحتلال الذي تريده اسرائيل.
قلت له: اذن هى مراجعة شاملة وعميقة؟ قال: هي كذلك. قلت له: انت الان في خطر، فابتسم وأدرك مقصدي، وتذكرت قول الرئيس أبو مازن “اأن إحساسنا بالخطر على اشخاصنا، لا يمكن الاّ ان يجعلنا نسرع في العمل، ولا يعنينا من تأدية واجببنا.. يستطيع الاسرائيليون في اي لحظة ان يغتالوني فهل هذا سبب في ان اتوقف أو أخاف!!.
كانت اجابته مذهلة .. وكان إيمانه عميقا مذكرا بإيمان الرئيس “عرفات” الذي مضى شهيدا في المقاطعة..
أعود إلى خطة الحكومة الفلسطينية الجديدة التي استمعت إليها، والتي حدد الرئيس أبو مازن ملامحها في اللقاء ، ثم استمعت إلى تفاصيلها في لقاء رئيس الوزراء بعد ذلك بيومين..
ملامح الخطة كما ذكرت تقوم على الانسحاب من التبعية الاقتصادية، وهذا العمل هو أهم مكونات الاستقلال، حين نعلم أن الاحتلال الاسرائيلي هو مشروع اقتصادي، وأن اسرائيل تبيع في الضفة الغربية كسوق تحتكره أكثر من خمسة مليارات دولار عدا أشياء أخرى، وأنه تؤبد احتلالها لهذا السبب الرئيس ، إضافة إلى أسباب أخرى ثانوية في اعتقادي..
السلطة الآن تضع أصبعها على عقدة الاحتلال الذي تريد أن تنشرها بالمنشار الاقتصادي، وهي تحرك هذا المنشار بعناية حتى لا يكسر، وهذا هو مفهوم التدرج، لأني علمت من الدكتور اشتية أن السلعة التي يستطيع الفلسطينيون أن يصنعوا منها 70 % سيقاطعون استيرادها، وهناك قائمة طويلة في هذا المجال من مواد غذائية ومن خضار وفواكة، يفرض عليهم استيرادها.. فلماذا يستورد البطيخ الإسرائيلي على حساب بطيخ جنين، او غير ذلك من سلع على حساب سلع توفرها مدن وقرى واراضي وفلاحين فلسطين ومصانع فلسطين و رجال اعمال فلسطين، وتوفرها الأسواق العربية وخاصة الأردنية التي اصبحت اكثر استجابة للرغبة الفلسطينية منذ لقاء الدكتور اشتيه مع نظيره الاردني عمر الرزاز الذي أكد اشتيه دوره وجهده وتفهمه واريحيته في اكثر من مجال…
الفلسطينيون الان يجربون خطة كفاحية ونضالية، أراها الأكثر أهمية، وهي أشد الأسلحة قضاء، وهي أخطر على اسرائيل من صواريخ لا تصيب اهدافها وتمكن إسرائيل من جني مزيد من التأييد الدولي..
الفلسطينيون في مقاطعتهم الجديدة لشبكة الارتباط بإسرائيل، يتغطون بقرارات دولية وبـ “إتقاق باريس” وحتى بـ”اوسلو”، ولكن اسرائيل نفذت كل تلك الاتفاقيات على هواها، الى ان جاءت هذه الحكومة الفلسطينية وبتوجيه من الرئيس ابو مازن، لإعادة قراءة هذه الاتفاقيات، لتجد إجراءات ومواقف وخطوات مجحفة بحق الفلسطينيين وحقوقهم ، حتى في المقاصة المالية المتكونة من الضرائب المجنية، والتي يعيدها الإسرائيليون ناقصة بعمولة 4% ، حين توظف سلطات الاحتلال شخصين اثنين لهذا العمل وتنتزع مقابله ما يعادل (150) مليون، لأنها لا تريد ان تقدم تصورات لحجم البيع للفلسطينين، في حين ترى حكومة اشتية أنها تستطيع ان تحصر حجم الشراء دون مساعدة، وبتوفير هذا المال المطالب به والذي تماطل إسرائيل في الموافقة على الموقف الفلسطيني فيه، وقد دخل رئيس الوزراء من خلال مندوبيه في مفاوضات وكانت النتائج ايجابية، رغم التذرع المسبق من موظفين أن اسرائيل لا تقبل ذلك…
الحركة التصحيحية التي تنتهجها السلطة ستصبح ملموسة تماما، وقد بدأت آثارها، وهذا قد يشكل حالة صدام حقيقة مع الاحتلال لا بد منها، وهي ضرورية لجهة بقاء السلطة، ولجهة قدرتها على خدمة المصالح الفلسطينية والخروج بها من دائرة الارتهان…
وغير إطار المستشفيات هناك إطارات اخرى لها علاقة بالوقود، الذي ترهن إسرائيل حاجات الفلسطينيين فيه لسوقها، تحت زعم ان بديله غير متوفر إلا عندها، فهي تدعي ان البنزين الأردني هو في نوع 3% وهي تستعمل 5% ، ولذا بحث الدكتور اشتية هذا الأمر مع الدكتور الرزاز، ويبدو ان هناك خطوات عملية اتخذت للتغلب على هذا الشرط…
و حين ادعت إسرائيل ذلك, قال الرئيس ابو مازن: “وماذا عن الكاز واستيراده من الأردن,وماذا عن شراكة في هذا,وماذا عن عمقنا العربي وحتى مع العراق,
و إمكانية الدعم بعد الزيارة الناجحة التي قام بها الدكتور اشتيه الى بغداد, والتي وضعتني في صورتها السفيرة العراقية في الاردن, السيدة “صفية سهيل”, وهي من انشط السفراء العرب وأكثرهم مواظبة..
وغير النفط تفتح السلطة ملف المياه التي تنهبها اسرائيل من اراضي السلطة, وتعود لتبيعها على المواطنين الفلسطينيين مره اخرى, وبشروط مجحفة.
وغير الماء, هناك ملف الكهرباء وملف الزراعة وحتى ملف السياحة, وملفات عديدة لم يسعفني الوقت في اللقاء مع الدكتور اشتيه لاستمع للمزيد من التفاصيل التي تحتاج الى ساعات.
الرجل يعرف ما يريد حتى قبل ان يصبح رئيسا للوزراء, وقد كنا سمعناه وفي اكثر من جلسة هناك في المجلس الوطني الفلسطيني وفي تصريحات وحتى هنا في عمان في محادثاته مع الرئيس عمر الرزاز, ان له خطة وتصورات واضحة ويبدو انه يستفيد الآن من الضوء الاخضر, الذي اشعله له الرئيس ابو مازن, والذي اصبح مقتنعا تماما بأن المقاومه السلمية متعددة الأشكال والأغراض جزء كبير منها هو الصدام مع الاحتلال في اطار فك التبعية الاقتصادية, وهذا ما استلزم اعادة ترتيب البيت الفلسطيني ودمر بعض الوجوه وإدخال أخرى, ومازال الأمر مستمرا وما زالت المتطلبات تزداد وتتراكم, وما زالت المسيرة بحاجة الى تصويب للرد على سياسات الاحتلال…
وإذا كانت اسرائيل تتحرك بمخططات جهنمية ضد السلطة الفلسطينية, مستعينة بالموقف الأمريكي الذي اصبح إسرائيليا اكثر من إسرائيل, فإن السلطة بدأت تتحرك لتصيب مقاتل إسرائيلية, وخاصة الآن عشية الانتخابات الإسرائيلية, حيث الموقف الفلسطيني المطالب بالعمل على اسقاط حكومة نتنياهو التي تنبأ رئيس الوزراء الفلسطيني الدكتور عمر اشتية انه لن ينجح, وان على الفلسطينين ان لا يكتفوا بالدعاء لإسقاطه, انما بالعمل الجاد والمتنوع في العمق الفلسطيني, وحيث يمكن التأثير عليه وحشد الشعب الفلسطيني كله من النهر الى البحر في مواجهة مخططاته كل حسب قدرته ..
زيارتي الأخيرة وضعتني في صورة التحديات المتجددة والقاسية ضد الشعب الفلسطيني وقيادته, ومن أجل إضعاف صموده واظهاره معزولا عن أمته, فقد ادركت ان الشعب الفلسطيني الصامد حدد خياراته وهو يلتف الان حول قيادته التي اتخذت مواقف صلبة في وجه صفقة القرن وفي وجه المخططات الإسرائيلية, ومن اجل إعادة اللُحمة الفلسطينية, وانجاز المصالحة التي يدرك الفلسطينيون ان اسرائيل تريد تكريس الانقسام, وهو ما سمعناه في تبرير نتنياهو لإرسال أموال قطرية الى حماس في غزة..
الصراع يطول ويدخل به الفلسطينيون حلقات جديدة حتى وان بدت متواضعة الا أنها هامة وتراكمية, وتبلور جهود الرئيس ابو مازن في تجسيد الدولة الفلسطينية.
استحقاقات صمود الفلسطينيين باهظة, ولن يبقى الاحتلال بلا كلفة, فها هي الخطوات بدأت بالاقتصاد ولن تكون السلطة بلا سلطة, وإلا لا معنى لها الى ان تقوم الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس, وهذا ما وضعت حكومة الدكتور اشتية البوصلة باتجاهه, بعد خطوات القيادة الفلسطينية التي “لا تريد لها الجعجعة وإنما تريد منها الطحن”.