عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
أصبح النظام العربي – إذا ما كان هذا التعبير ما زال قائما- محاصر بالضغط عليه من داخله (شعوبه المضطهدة والمعذبة لغياب المشاركة والديمقراطية والتي يجري التعامل معها بوليسيا)، ومن الخارج بالهجمة الامريكية والاسرائيلية التي لم يعد يقال لها لماذا؟ وإنما كيف تريدوننا ان نعمل، خاصة في موجة التطبيع المجاني التي بدأت بعض الانظمة العربية تلوح بها، وراح نتنياهو يبشر بها ويحتفل ..
تغيرت الامور كثيرا في المنطقة، أو هكذا يبدو بعد وصول ترامب الى السلطة في الولايات المتحده، وما كان بعض العرب يمارسونه في الغرف المغلقة، أصبح أكثره يمارس في العلن، لكن دون أن تقوى هذه الانظمة التي بدأت ضعيفة على اتخاذ قرارات واضحة.. فهي توافق الإدارة الامريكية وإسرائيل على كثير من الحيثيات دون ان تجاهر بذلك، وهي تدفع للمنامة وغدا الى كامب ديفيد الجديدة ، دون ان تعلن تأييدها بشكل علني لمبعوثي الادارة الامريكية.
أليس غريبا أن يصمد الرئيس محمود عباس رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية وهو تحت الاحتلال، ليقول للادارة الامريكية التي تحولت الى مترجم للخطة الصهيونية الاسرائيلية، ومنفذة للماكيت الاسرائيلي، ليقول لهذه الادارة (لا)، ويرفض خططها ويصفها بالانحياز وعدم الحياد، وأنها ليست مؤهلة للوساطة او التدخل، في حين تخشى انظمة عربية عديدة من غضب ترامب، و تحسب له حساب حين يهددها في استقرارها واستمرارها، ويمارس معها سياسة الترغيب والترهيب وصكوك الحرمان والنبذ، في أنها غير قادرة ان تعيش لأكثر من أسبوعين وأنها ستبدو مشلولة الحركة ، اذا ما أنفذ وعده ضدها؟.
اليس غريبا ذلك؟ في أن لا يستطيع زعيم عربي باستثناءات قليلة، أن يقول للمبعوث الامريكي (لا) بصوت عال.
وبدلا من أن يصبح النظام العربي عمقا لفلسطين و للفلسطينيين، أصبحت فلسطين وشعبها عمقا للعرب.. فالصمود الفلسطيني الاسطوري لأكثر من( 6.5) مليون فلسطيني بقيادتهم ، هي العمق العربي، وليس العكس حتى الآن.. ويبدو أن صمود هذا الشعب الذي وضعته الولايات المتحدة واسرائيل في الامتحان والمحنة، هو الذي سيحرر الارادة العربية الخاوية والخائفة والمنتظرة، والتي تكاد تستسلم، فلماذا لم تتمكن اسرائيل من احتلال ارادة الشعب الفلسطيني، رغم انها احتلت أرضه؟ في حين نجد ان اسرائيل احتلت ارادة عديد من الانظمة العربية وحتى الاساسية منها..
اذن فلسطين الآن بصمودها هي العمق العربي ،وليس الارض العربية هي العمق الفلسطيني .. فالفلسطينيون يحتاجون الى عمق عربي يدعم كفاحهم ومقاومتهم وصمودهم ،فأين هو هذا العمق حين يجري الرد على الذين يطلبون من الفلسطينيين ان يصمدوا ويقاتلوا ويشتبكوا مع الاحتلال، إن لم يكن اليوم ففي الغد، بعد أن تبين ان اسرائيل تمعن في تأبيد احتلالها، وتدخل الى مرحلة تصفية القضية الفلسطينية .
“تعود حليمة الى عادتها القديمة”، ويجري مساومة أنظمة عربية على استقرارها ومراودتها عن نفسها، وتحاول أن تهرب باتجاه الحضن الأمريكي، دافعة أموال فدية لاستقرارها مرة، ومستعدة لتسديد حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة لاسرائيل مره أخرى.
والسؤال من أين لـ “ابو مازن” كل هذه الشجاعة، مقارنة مع اقطاب النظام العربي، ليصمد ويتخذ هذا الموقف؟.. ومن أين جاء بـ “حليب السباع ” الذي شربه؟.. اليس ثديه هو الشعب الفلسطيني، حين لم تعط الشعوب العربية ثديها لأنظمة رأت أنها باعتها، وما زالت تبيعها حين انقلبت هذه الأنظمة وبدأت تأكل بثدييها..
كانت الحركة الصهيونية كما يقول ابو مازن، في بحثه القيم في المقارنة بين الصهيونية والنازية، ان الحركة الصهيوننية كانت دائما تعمل أن لا تكون قيادة الشعب الفلسطيني منه، وإذا كان لابد من ذلك في فترة انتقالية، فلا بد أن تكون قيادة تابعة، وإلّا حاصرتها او قتلتها أو وضعتها موقع الاتهامية والتضييق.. أو عمدت للطلب من النظام العربي أن يفرز للفلسطينيين قيادتهم، او يرسل لهم قيادة كما جرى بالأمس ويجري اليوم وما زال يجري..
أما النقطة الثانية، فهي أنه حين يجري الحديث عن القضية الفلسطينية، فإن معنى ذلك ليس الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، أو حتى في المنافي لتصبح القضية ودعمها مجرد شعار لا يصيب أهلها ولا يعني الفلسطينيين..
اذن هذان عاملان، الأول” القيادة” ، والثاني “الشعب”، فان لإسرائيل عنها فهم مختلف تماما ،تحاول تكريسه ..
يصمد الرئيس عباس، والذي لا يطيقون صموده ، ويرون أنه يزايد عليهم من العرب، يقولون انه طلع الي الشجرة ولا يعرف كيف ينزل، ويرون ان العجز عقل.. وتلك طبيعة الخلق اللئيم.. في حين أن القائد الفلسطيني مارس خيار شعبه، وهو لم يقل انه “جيفارا”، ولم يضع على وسطه حزاماً ناسفاً، ولم يخرج من قناعته بالسلام وضروراته، ولم يكفر او يقلب الطاولة إلا بمقدار ما تُمعن اسرائيل في ارهابها المتزايد في كل ساعة.
لم يغلق الرئيس عباس الباب امام أي نسمة،أو فرصة للسلام، فما زال ينتظر، ولم يهاجم أحدا من الانظمة العربية رغم أن شعبه يرى خطها وخروجها عن المألوف في “وارسو ” وفي ” المنامة”.
أبو مازن الذي أصدر قرارات من خلال الهيئات المؤسسية الفلسطينية ،لتجميد الاتفاقيات مع اسرائيل ورتب لوضع اليات لذلك ، يرى أن ذلك كله برسم التنفيذ الآن ما لم تتراجع اسرائيل أو يضغط عليها المجتمع الدولي وهو يرى أن هذه المواقف يتخذها على كره (كتب عليكم القتال على كره)، فهو لم يكن في أي يوم من الأيام متحمسا للصدام أو راغبا في إعطاء فرصة لليمين الاسرائيلي لمزيد من البطش ، في الشعب الفلسطيني، أو هدم بيوته أو مصادرة اراضيه أو اقتلاعه أو طرده.
يدرك الرئيس عباس أن شفرة الاحتلال المشحوذة على المسن الاميركي ، إنما يجري تجهيزها لانفاذ خطط جديدة يعمل بكل ما أوتي من قوة وحكمة لتفويتها واسقاطها بكل الوسائل، وهو يفعل وقد وصل مواقف متقدمة وهو يضع قدميه في الحائط ليسقط المنامة ومحاولات كوشنير وانفاذ صفقة القرن.
يراهن الرئيس عباس على إرادة شعبه وهو لا يخش التفليت العربي لأنه يدرك أنه لم يتبق قيادات عربية قادرة أن تنفذ ما تؤمن به، لخوفها من شعوبها التي انطلقت إرادتها في الربيع العربي، رغم أنها أي هذه الشعوب ما زالت مجروحة، ومطاردة وجائعة ومتهمة.
وتعود حليمة العربية لعادتها القديمة، حين تطلب منها الادارة الاميركية والاسرائيلية أن تقفز عن مشاركة الشعب الفلسطيني وعن حقوقه ، وتذهب هذه الانظمة إلى المنامة، وستذهب إلى كامب ديفيد رغم أن الفلسطينيون يمتنعون ولا يذهبون ، ولذا تبدو قرارات قمة تونس التي قالت نقبل ما يقبل به الفلسطينيون وقد أحست.
أنا متأكد أن أبو مازن الذي يتمتع الآن بشعبية واسعة في شعبه في كل أرض فلسطين التاريخية بما في ذلك معظم جمهور حماس لأنه يستجيب لإرادة شعبه بعد أن أغلقت اسرائيل الابواب والنوافذ وأرادت شعبنا أن يموت اختناقا ، حتى وهي تجرده من أمواله وتفرض عليه تصورات قاسية رفضتها القيادة الفلسطينية حين قال الرئيس عباس : “لو لم يبق عندنا إلى دولار واحد فسيكون مخصصا للشهداء والجرحى والأسرى” ، وهم الجهات المستهدفة في الاقتطاعات الاسرائيلية التي رفضها الرئيس عباس ورفضتها قيادته.
لأن الإقرار بها يعني الإقرار بأن هذه الشريحة الأنبل في الشعب الفلسطيني ، وكأنها لا تستحق ، وبالتالي تصنفها اسرائيل كشريحة ارهابية بمجرد الموافقة على حرمانها من الراتب أو إقرار القيادة بذلك.
يمضي الرئيس أبو مازن لمعركته السياسية النبيلة، وسط تأييد دولي كما مضى الحسين بن علي، حين أمسك بالحق فكان نصيبه الشهادة . ألم يفعل الرئيس عرفات ذلك واختار التاريخ حتى لا يختار الهزيمة والتاريخ انصفه. ولذا فإن خيار ابو مازن هو “التاريخ” فهو من جيل المؤسسين ولن تسقط الراية ( راية القدس ) من يده كما لم تسقط راية مؤتة من يد جعفر إلا باستشهاده ورفاقه في مؤتة.
الآن يقرأ الشارع العربي فقط الفلسطيني والأردني الموقف الفلسطيني الشجاع ،والذي بصموده كما قلت سيقطر الموقف العربي وراءه مهما زادت المعاناة ، فلا خيار أمام الفلسطينيين والاردنيين إلا هذا الخيار الفلسطيني الواضح ،والذي يمثل قول الشاعر محمود درويش”:
اكل الثعلب في برجي حمامة ..وسوف ارثيها وساحمي البرج ولست استعجل ميلاد القيامة…
هكذا تقف فلسطين الان خلف قيادتها، قيادة الرئيس محمود عباس وتستلهم كل تاريخها من الصمود والاستشهاد والعطاء والوعي …
الفلسطينيون اليوم يبنون خطة الإعتماد على النفس وقد بدأوا ولن يعودوا الى اسلوب المناشدة للنظام العربي حين كانوا يظنون ان أصواتهم واصلة وقد اكتشفوا انهم لا ينادون حيا لقد اسمعت لو ناديت حيا ولكن لاحياه لمن تنادي…
ومع ذلك فان القيادة الفلسطينية تمسك بقبضتها على جمر الصمود والمعاناة ولا تكفر بأمتها لان هذه الأمة سوف تصحوا ذات لحظة لتجد زرقاء اليمامة الفلسطينية وقد اوقت ونصحت وقالت :
امرتهم امري بمنعرج اللوى… فلم يستبنوا الرشد الا ضحى الغد
القيادة الفلسطينية تصمد وتصمت وتعمل، وليست معنية بتحريض شعبها الا على عدوه الحقيقي، وليس على النظام العربي ، هل تلاحظون ذلك؟ فما زالت هذه القيادة تجد للبعض عذرا الا ان يصحوا ويدرك…
فما زال بعضهم يقول :
“شغلتنا اموالنا واهلونا” والقدس مازالت أسيرة ، بعضهم حتى لا يطلب ان يعذر الى ان يكتشف انه كالمستجير من رمضاء شعبه الذي يرفضه، بنار حليفه الأمريكي الإسرائيلي الذي سيحرقه…