- إيمان جلالة السلطان بالدور التنموي للإعلام منح المنظومة مُمكنات صناعة الفارق
- مناخ الحُرية وروح الديمقراطية كلمة السر في نجاح الرسالة الإعلامية العُمانية
- مهنية الإعلام العُماني شكلت رأيا عاما واعيا ورسخت قيم المواطنة
- منهجية التعاطي مع الأحداث منحت التجربة العُمانية صك التفرد والخصوصية
منذ العام 1970 وحتى الآن، وتتوالد من رحم المشهد العام في السلطنة العديدُ من الصُّور الفَارِقة، التي تُؤرِّخ لإنجازٍ تنمويٍّ شاملٍ، تُظلله سُحبُ نهضةٍ مباركة، تحملُ الخيرَ العميمَ لتُمطر نماءً وازدهارًا على كل بُقعةٍ من أرضٍ عُمان؛ فأثمر ذلك تحولاً مشهودًا في الواقع المجتمعي، والسياسي، والاقتصادي، امتدَّ لمُستوى العلاقات الخارجية مع الدول الشقيقة والصديقة، فاستحقَّت عُمان الظفر بصك الموثوقية الدولية واكتسبت ودَّ واحترام العالم من حولها.. وفي القلب من هذا الحِراك الألمعيِّ في رصِّ مصفوفة النماء وبناء الدولة العصرية، انبرتْ الآلة الإعلامية العُمانية -بإيمان عميق من القائمين عليها والعاملين في كنفها- لحشد كل الجُهود من أجل تطوير عملية نقل الحدث وصناعته، بمهنية وموضوعية ومصداقية، ضَمِنَت ضبط بوصلة الخريطة الإدراكية للمواطنين، وتشكيل الرأي العام القائم على أساس رَفع مُستويات الوعي، وترسيخ الهُوية وتعزيز مفردات الانتماء، وصَوْن القيم، متسلحة في ذلك بثقةٍ ساميةٍ من لدن قيادةٍ حكيمةٍ يُجسدها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- الذي آمن بوظيفة الإعلام ورسالته، وأكَّد على رُقيها في العديد من مضامين خطابته السامية.
عروبة الإخباري كتب – هيثم صلاح
إنَّ هذا التطوُّر المتنامِي للارتقاء بأداء وسائل الإعلام في السلطنة -المقروءة، والمسموعة، والمرئية- ومراحل النمو والتطور التي جاءت مُتسمة بالارتكاز والاتزان، والتطوُّر المحسوبة خُطواته برويَّةٍ وتأنٍ، صِيغَت له من البداية ثَوَابت أساسية أبقتْ على جوهر الرسالة الإعلامية العُمانية بمنأى عن الوقوع في فخ الاهتزاز أو التحيزات الأيديولوجية والتحزُّبات.. وغيرها من الأوصاف التي تَسِم العديد من وسائل الإعلام اليوم. فقد آمنت الرسالة الإعلامية في السلطنة بمُسلَّماتٍ يَخْفى عُمق نجاعتها عن كثير مِمَّن أدمنوا صناعة البروباجندا والشو؛ فواكبت الأحداث الداخلية والخارجية على مدى نصف القرن الفائت -ولا تزال- بكفاءة ومهنية واقتدار، كانت فيها مِعول بناء، وعاملًا مُؤثِّرًا من الدرجة الأولى في مسيرة النهضة، ودفع عجلة التقدم والازدهار، وحِفْظ ما تحقق من منجزٍ تنموي وارتقاءٍ حضاري، أوجد منظومة مكتملة تخدم الصالح العام، وتُحيي التوجُّه الحركي والديناميكي داخل المجتمع، كمنبر مفتوح على الجميع، يشخِّص ويُعالج التحديات، ويُسهم في مسيرة النماء والازدهار، ويضع البصمات الإيجابية على مختلف مجالات الحياة.. شريكٌ رئيسيٌّ في تعزيز الأمن، وحفظ الاستقرار، وترسيخ الثقافة الإيجابية المعتدلة، بمصداقية تتوافق ومتطلبات المجتمع وآماله وتطلعاته في المستقبل.
وهو عَين ما أكَّده حضرة صاحب الجلالة في خطابه بمناسبة العيد الوطني الثاني المجيد (1972م)؛ بأنَّ “أجهزة الإعلام هي المرآة التي تعكس ما يدور في البلاد، وهذه المرآة يجب أن تكون صافية نقية صادقة مع نفسها ومع الآخرين”، وهو التزامٌ اضطلع بأمانته الإعلام العُماني، واجتهد العامِلون عليه لصياغة ميثاقٍ لشرف المهنة، كانت بنوده بمثابة منهاج لرسم مسار الخارطة الإعلامية العُمانية، وفق قيم الموضوعية، ومبادئ الصدق، وخصوصية المهنة وتأثيراتها، برسالةٍ تحافظُ على مُرتكزات الوطن الكبير، ومقوِّمات دولة المؤسسات والقانون، وآليات التطوُّر المستدام.
فالمحتوى الإخباري الذي يُنشر، ونوعية البرامج التي تُبث -على اختلاف المجالات التي تسبر أغوارها- والمنهجية التي يتمُّ بها التعاطي مع الأحداث، والتغطيات الشاملة لكل مُستجد، وحتى الأسماء التي يتمُّ اختيارها لمحاورتها، وما يبذله الإعلام العُماني -الحكومي والخاص على السواء- من جهد جهيد لإبراز النماذج المضيئة وتسليط الأضواء الكاشفة عليها بهدف صناعة قدوات أمام الأجيال المتعاقبة، وما تبادر به وزارة الإعلام من أجل تعبيد كل الطرق أمام اكتمال منظومة الإعلام في السلطنة، وما تصوغه الهيئة العامة للإذاعة والتليفزيون من خرائط برامجية ترنو لإعلاء قيم المواطنة الصالحة الرشيدة، وترسيخ الهُوية، وتنمية حس الاعتزاز بالتراث والتاريخ العريق، لتؤكد باختصار المساعي الجادة لـ”أنسنة الإعلام” العُماني، مُحَافِظَةً على السمت العُماني المميَّز، ومانحةً التجربة النهضوية في البلاد صكَّ التفرُّد والخصوصية التي لا تُضارع، وكُلها مُعطيات -وإن لم يُدرك الكثير سمو رسالتها إلى الآن- لا تُرهق باحثًا عن أن يُدرك العُمق الوطني والمهني الذي تهدف إليه الرسالة الإعلامية؛ للخروج من طور نقل الحدث -حتى وإن كان باحترافية ومهنية عالية- إلى ما هو أشمل من ذلك، بأن يضطلع الإعلام بدوره كفاعل وحارس آمين لمسيرة الخير والتنمية.
إنَّه باختصار المرادف الحديث لمفهوم “الإعلام التنموي”، الذي يستحضر مسؤولياته الثلاث: الوطنية، والإعلامية، والمجتمعية، مبتعدًا عن الإثارة في الأخبار، أو الكتابات السطحية التي لا تنشد سوى مطامح مُلَّاك المنابر الإعلامية لتحقيق الانتشار والربحية والجماهيرية على حساب أي شيء، غلا ثمنه أو قل.. وبكل تأكيد فإنَّ مناخ الحُرية الصَّحو وروح الديمقراطية المسؤولة التي ضَمِنها النظام الأساسي للدولة، وعمَّقتها ورسَّختها الإرادة السامية بتوجيهاتها السديدة للحكومة الرشيدة، كانت كلمة السر في أن تحظى الرسالة الإعلامية العُمانية بكل هذا الزخم، وهو ما لفت إليه صاحب كتاب “الإعلام في البيئات المتأزمة”، من أنَّ “البيئات المضطربة سياسيًّا تُلقي بظلالها على الحركة الإعلامية وطبيعة المضامين المنشورة، فتفعِّل الوظيفة السياسية إلى أقصى حدودها على حساب الوظائف الأخرى”.
فالسياسات التحريرية المتزنة، والطرح الموضوعي المتجرِّد، يُحيل الجمهور إلى أنَّ هناك علاقة بائنة بين الإعلام العُماني الإيجابي والمجتمع بشكل عام، فقبل أن تتحرك خطط التنمية من الإحصائيات والتنسيق إلى شكلها النهائي، يكون الإعلام قد سبقها، بملامسة احتياجات المواطنين، والتعرف عليها، ورصدها، ووضع الفرضيات والحلول للقضايا المصيرية المهمة، بشفافية تطمح لتعميق مسارات النهوض، بعيدًا عن أية ضغوطات أو توجيهات.. رسالة متعددة الأبعاد تدعم جهود البناء، كجهاز عصبي لعملية التنمية، يُعظِّم مشاركة الجميع في كافة مراحلها، وقوة تؤثر بشكل فاعل في تشكيل المفاهيم وتوجيهها، وتعلي سقف الشعور بالمسؤولية لدى الجميع.
الموضوعية والمصداقية
وفي وقتٍ بات فيه مُصطلحان كـ”الموضوعية” و”المصداقية” مَكرُوريْن بصورة تُفقدهما عُمق قِيْمتيهما، استطاعت الرسالة الإعلامية العُمانية أن تحفظ لهما كينونتهما، بعيدًا عن التشدُّقات الفارغة، والشعارات المطاطية؛ فآلت على نفسها نقل الأحداث باتزان وحيادية وتجرُّد، يُعطي كل الأطراف المساحة الكافية لإبداء الرأي، وصولاً لتمكين القارئ من الحصول على حقه في المعلومة كاملةً، دون إقحامٍ للآراء الشخصية، وبمصداقية تحمل نتاجًا تراكميًّا للالتزام بتحري الدقة، يُمكن بسهولة المراهنة على نجاعته في الابتعاد عن ممارسة الفبركة أو التضليل أو تشويه الحقائق وإنقاصها، كهدف أو رغبة مثالية تبدت صُوَر مُجاهدتها لتحقيق أعلى معايير الالتزم الإعلامي بهما؛ لصنع ثقة متبادلة مع الجمهور المتلقي.
فالمتابع لما يُبث ويُنشر، والقارئ والمستمع والمشاهد للتحليلات والتقارير والحوارات، والمقارنات التي تتحدث عن شؤون الوطن وما يجري فيه من حِراك وتطورات، وما يَعْرضُ للمشكلات والإخفاقات والطموحات، يكتشف أنَّ الرسالة الإعلامية العُمانية تجاهد -في زمن عصيب- لسُلوك دربِ الإنصاف وانتهاج الموضوعية والابتعاد ما أمكن عن الغلو، كمنهجية لا تُثبت فقط صَوَاب الفكرة, وإنما صَوَاب طريقة التفكير والأداء المهني.
أمانة ومسؤولية
إنَّ أية آلة إعلامية في هذا العالم الذي يضجِّ بالأحداث، إذا ما أرادت أداءً مهنيًّا يحقق رسالتها؛ فإنه لا يجب أن تحيد عن مسؤولياتها الوطنية والإعلامية والمجتمعية؛ كي ما تكون بحق ظهيرًا إيجابيًّا جادًّا وحقيقيًّا غير مصطنع؛ فالمسئولية الوطنية للإعلام، هي نقطة الارتكاز الأساسية لوضع حاضر وسلامة واستقرار وأمن وتنمية الوطن ومستقبله كهدف رئيسى.. إعلام مسؤولٌ بواجباته؛ وهو ما عناه النطق السامي لجلالة السلطان المعظم، في خطابة بمناسبة العيد الوطني الرابع (1974م)، بأنه “وعلى مستوى الإعلام: أنَّ يعكس كل هذه الأنشطة ويعرف بالنهضة الشاملة، التي تشهدها بلادنا في عصرها الحديث”، وبعدها بعام كان تأكيد جلالته في نفس المناسبة (1975م) على “إننا على طريق التقدم سائرون وخطتنا المقبلة هادفة طموحة، وأجهزتكم الإعلامية المختلفة وقد نمت وترعرعت، كفيلة بأن تنقل إليكم أينما كنتم قصة شعب آمن بوطنه واتخذ مساره بوعي وتفهم ولم يرض عن حياة غير حياة العزة والكرامة بديلا”، وعليها تنبني مسؤوليته الثانية: الإعلامية، والتي نجح الإعلام العُماني في بلورتها بمهنية عالية؛ مما استدعى إشادة سامية من لدن جلالته في خطابه بالعيد الوطني العشرين المجيد (1990م)، حين قال: “ونعبر في هذا المجال عن ارتياحنا لما يقوم به الإعلام العُماني من إبراز للمواقف التي تتخذها البلاد تجاه مختلف القضايا الإقليمية والدولية، وننوه على وجه الخصوص بالأسلوب الذي يتبعه في تناوله للأحداث بكل الصدق والموضوعية دون مبالغة أو تهويل”، وصولًا إلى مسؤوليته الثالثة: المسؤولية الاجتماعية التي تقود لقيامه بمسؤوليته تجاه المجتمع، وهو ما وجه إليه جلالته في نص الخطاب ذاته (1990م)، حين وجَّه -حفظه الله- إلى أنه “وفي الوقت الذي تتزايد فيه أهمية دور الإعلام في الحياة المعاصرة للمجتمعات والشعوب، فإنه لمن الضروري العمل على تطوير الإعلام العماني؛ ليؤدي رسالته في تنمية قدرات المواطن وتوعيته بدوره الأساسي في بناء وطنه، وليُسهم كذلك في توطيد علاقات الصداقة والتعاون مع الأسرة الدولية.
إعلام إيجابي
إنَّ منظومة الإعلام العُماني لتعمل وفق إطار عام ومحددات رئيسية، تُميزها في أدائها عن باقي وسائل الإعلام حول العالم في آلية تعاطيها مع الأحداث والمجريات؛ فعلى المستوى المحلي نجحت الآلة الإعلامية العُمانية في الإسهام بدور محوري في عملية النهوض والتطوير بعلاقة طردية، ساعدت في تحقيق مستويات النمو المأمول، بحرصٍ بالغٍ على أن تظل جسرَ التواصل بين المسؤولين -صانع القرار- والمواطن المتلقي -المتأثر الأول بمختلف القرارات- انطلاقًا من أرضية وطنية تؤمن بأهمية العمل على تحقيق التواصل بين الطرفين. وخارجيًّا -لا سيما على المستوى الإقليمي- ضربت مثالاً رائعًا في التناول الإعلامي الإيجابي الذي لا يبحث عن إثارة الفتن، أو التدخل في الشؤون الداخلية للغير، فكانت على مسافة واحدة من الجميع؛ في ترجمةٍ عمليةٍ ليقين متجذِّر بأن التدخلات الإعلامية الفوضوية من شأنها أن تُزيد حِدة الصراع وتؤجج الخلاف وتشعل نيران الفتن، بيد أنَّ هذا في المقابل لم يمنعها من الإدلاء بما تراه من آراء ووجهات نظر تُحلِّل -وبعمق- تداعيات الأزمات وانعكاساتها على الإقليم، في ضوء الحرص على إنهاء المشكلات، والدعوة للتفاهم والحوار، للوصول إلى صيغ تضمن إحلال السلام وتُخمد نيران الحروب.
الأداء الرقمي
ومع ولوج عصر السماوات المفتوحة، قدَّمت الرسالة الإعلامية العُمانية نموذجًا فريدًا من المزج بين المهنية وسرعة نقل الخبر، وتمكنت من الحفاظ على الخط المتزن في عالم افتراضي يعجُّ بالعديد من التحديات بالغة التعقيد ليس فقط على مستوى الأعداد الكبيرة التي تُمارس عبر هذه المناصات عملا إعلاميا غير منضبط، بل استطاعت أن تقدِّم دورًا استثنائيًّا في مجابهة نشر التزييف والفبركة الإعلامية المتعمدة، لاسيما في أوقات الأحداث السياسية الشائكة، فمواكبة لهذا التطور التقني الواسع، حرصتْ الإعلام العماني على أن تمتلك كل وسيلة إعلامية في السلطنة حسابات على مختلف مواقع وسائل التواصل تقوم من خلالها بدور مهني إيجابي كفوء، راهنت من خلاله على وعي المواطن أولاً، وظلَّت القبلة التي يُمم شطرها الباحثون عن الحقيقة في عوالم افتراضية غثُّها يطغى كثيرًا على سمينها.
.. لقد استطاعت الرسالة الإعلامية العُمانية أن تُبقِي المنظومة الإعلامية -بوسائلها والعاملين عليها وفيها- على خطِّ التَّماس الإيجابي الذي يحفظ للإعلام دوره الوطني الأساسي المتوازنٍ والفعال، وأن تُدير عملية صناعة وإدارة الرأي العام الواعي، المتفهِّم لمسؤوليته، والمتفاعِل مع مُعطيات كل مرحلة من مراحل التنمية ومتطلباتها، برؤية وأهدافٍ وطنية تُرجِمَت في صورة منهجية متميزة واضحة الهدف والمبتغى.