ربما كان توقيت القرار الأمريكي الباطل بالاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان المحتلة، يضع الأمر عند البعض على أننا أمام «هدية انتخابية» من الرئيس الأمريكي ترامب إلى رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو لمساعدته في الانتخابات المصيرية التي يخوضها، والتي يواجه فيها شبح الخسارة ومعه خطر المحاكمة على جرائم الفساد الموجهة إليه.
قد يكون توقيت إصدار القرار ومسرحية توقيع ترامب عليه في حضور نتنياهو دليلاً على ذلك، لكن الأمر بالتأكيد أخطر من ذلك، والقرار كان سيصدر حتماً «في هذا التوقيت أو غيره»، لأنه جزء من استراتيجية تطبقها الإدارة الأمريكية في ظل رئاسة ترامب، على سوريا وعلى المنطقة كلها.
ويعرف ترامب أن قراره لن يحظى بموافقة أي دولة كبرى أو صغرى لديها أي احترام للقانون وللشرعية الدولية، ويعرف أيضاً أن أمريكا ستقف معزولة بصحبة إسرائيل فقط، كما حدث من قبل عند إصدار القرار الأحمق بالاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها.
ويعرف ترامب أيضاً أن القرار الخاص بهضبة الجولان المخالف لكل القوانين والقرارات الدولية، لن يغير شيئاً في الواقع، الجولان واقع تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ حرب عام 67، لكنه يعرف أن القرار الذي يتخذه يعني نسفاً للسياسة الأمريكية التي داومت على الاعتراف بأن الجولان أرض سورية تحت الاحتلال، والتي شاركت عدة مرات في مفاوضات لإعادتها لسوريا، كان آخرها في عهد كلينتون، وكاد الاتفاق فيها أن يتم لولا الخلاف على مساحة صغيرة حول بحيرة طبرية.
ينهي ترامب بقرار الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان نصف قرن من الالتزام الأمريكي بالقرارات الدولية، ويفتح الباب على مصراعيه لما هو أخطر. وما هو أخطر هنا يبدأ من الجولان، ولا ينتهي بسوريا، وإنما يمتد إلى المنطقة بأسرها.
القرار الخاص بالجولان يعطي إشارة بفتح الباب أمام مخطط تقسيم سوريا الذي تكرر الحديث عنه منذ بداية الحرب. ولعل هذا يفسر الرغبة الأمريكية في الاحتفاظ بالورقة الكردية، والسماح لتركيا بأن تمد نفوذها في الشمال، واللعب بورقة الاختلافات العرقية والدينية، والسعي لتفاهمات مع الروس أو لحصار نفوذهم في جزء صغير من سوريا التي يراد لها ألا تعود دولة موحدة ومؤثرة في المنطقة، كما كانت على الدوام. وربما كان حديث وزير خارجية أمريكا عن الدولة الفيدرالية السورية أمام الحلفاء الأوروبيين في بروكسل قبل بضعة شهور تأكيداً على هذا التوجه الذي تمهد له واشنطن بالمحاولة الباطلة لنزع الجولان من وطنه سوريا.
ويأتي القرار الخاص بالجولان ليكون محاولة من واشنطن لتكريس سياسة أن الأرض لمن يستولي عليها (!!) وتعرف واشنطن جيداً أن الوضع القانوني للجولان يتماثل مع الوضع القانوني للأرض الفلسطينية المحتلة، وأن تمرير قرارها حول منح السيادة على الجولان لإسرائيل بالمخالفة لكل القوانين والقرارات الدولية، يمكن أن يكون سابقة تتكرر مع الأراضي الفلسطينية، ولعل ذلك يفسر لنا تصريحاً آخر لوزير الخارجية الأمريكية بومبيو يؤكد فيه أن «قرار واشنطن حول الجولان سيساعد على حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وذلك من خلال إزالة حالة عدم اليقين»، ولعله يقصد أن الحل سيأتي عندما تأتي «الصفقة الوهمية الموعودة» باليقين الذي يعرف من خلاله الفلسطينيون أن مستقبل الضفة هو مستقبل الهضبة نفسه، وأن حلم الدولة ينتهي بفرمان آخر من ترامب، أو هكذا يتوهم من يسيطرون على مفاتيح السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي – الإسرائيلي، والذين كانوا وراء قرارات ترامب بشأن القدس وحصار منظمة «الأونروا» ومحاولة تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين. لتكون صفقة القرن الموعودة أو ما تبقى منها إذا أخذنا في الاعتبار أن كل القرارات السابقة هي جزء من «الحل» أو من تصفية القضية الفلسطينية، وأن ما تبقى هو التفاصيل.
ينبغي أن تكون المواجهة شاملة، وأن تتعدى بيانات الشجب والاستنكار إلى البناء على ما حققناه في السنوات القليلة الماضية في التصدي لهذه المخططات.. وما حققناه، رغم كل ما حدث للوطن العربي، مهم للغاية، بكشف المؤامرة والتصدي لها، والوقوف في وجه عصابات الإرهاب، وكشف مخططات مد النفوذ في الوطن العربي والتصدي لها لإنقاذ اليمن الشقيق، ولاستعادة الدولة في ليبيا، ولدعم صمود شعبنا في فلسطين.
الموقف الآن رغم كل التحديات يضعنا في موقف أفضل للمواجهة، العالم كله يرفض القرارات الأمريكية حول القدس وحول الجولان، والعالم كله يقف معنا في مواجهة العدوان الإيراني والتركي على الأراضي العربية، وفي مواجهة محاولات تصفية القضية الفلسطينية وفرض الأمر الواقع الإسرائيلي.
ولعلنا أمام لحظة للعمل العربي الجاد لبناء توافق مع القوى العالمية المؤثرة لفرض الحل السياسي الذي ينهي الصراعات في سوريا وليبيا واليمن، ويستعيد الوحدة العربية والدولة الموحدة في هذه الأقطار العربية، ويضرب كل محاولات توطين عصابات الإرهاب ويوقف أطماع الدول الإقليمية غير العربية، ويضرب كل الميليشيا التي تنشر الدمار وتحاول فرض الحروب المذهبية وتفكيك الدولة الوطنية، والتي لا تعرف إلا الولاء لتكفير الآخرين، والتبعية لأئمة الإرهاب والخيانة للدين والوطن.
وأمامنا عمل مهم لوضع قضايانا العادلة بوضوح أمام الرأي العام العالمي، وخاصة في أوروبا والولايات المتحدة، لكي يدرك الجميع حجم المخاطر التي تتعرض لها المنطقة، والنتائج الكارثية لأي سياسات تراهن على نشر الفوضى في المنطقة.
ولا شك أن القمة العربية في تونس سوف تتخذ خطوات على هذا الطريق، لكن العبء الأكبر سوف يظل موكولاً للقوى العربية الفاعلة، تلك القوى التي كانت وحدتها طريقاً لإيقاف مخطط الفوضى وإنقاذ مصر من قبضة الإخوان، والتصدي للمؤامرة في اليمن وليبيا، والتي تتحمل عبء التصدي لمحاولة تصفية القضية الفلسطينية، وأيضاً عبء التصدي لجماعات ودول تمثل الطابور الخامس داخل الجسد العربي.
المهمة صعبة، لكن هزيمة الأمة العربية لكل المخططات التي تتهددها أمر يستحق كل التضحيات.